123

Aqzam Jababira

أقزام جبابرة

Genres

5

وكان في قلب شلهوب منها حسرة، فصارت بموتها حسرتين. عذبت قلبه بتدللها قبل الزواج، وكلفته جهازا ينسى حليب أمه ولا ينساه، كما كان يقول. وإذا حسب ما بذر في حياته جعل ثمن فسطان العرس المخملي ونفقة العرس في رأس القائمة.

كان يحسب هذا المبلغ وفائدته المركبة طوال خمسة وخمسين عاما، فيصفق كفا على كف تحسرا على ثروة ضخمة أفلتت من يده، ويقول بصوت عال: راحت.

فيخال بنوه أنه متحسر على المرحومة والدتهم، فتغرغر عيونهم بالدمع. ثم يتوغل شلهوب في دنيا ذكرياته فيتخيل مأتمها الحافل وما كلفه من ذهبات فتتزعزع أركانه: ثلاثة آلاف قرش! ليتني ما سمعت من الناس وعملت بعقلي، كنت وفرت نصف المبلغ على الأقل.

وتلمس «كمره» الذي كان لا يحله لا ليلا ولا نهارا فاطمأن. لم يكن يأسف على فراق دنياه كأسفه على هذه الذهبات التي سيتفرق شملها يوم دفنه، والفراق مر، فيقول: قلة عقل، خوري واحد كثير علي، مسكين ابني داود! ركبته العيلة، أمس كانت حرمته طائفة بالحارة تفتش عن أقة خبز، سمعتها تقول لأم جرجس: جمعة عمي عندنا، وما في معجننا رغيف، فانسلخ قلبي.

وكبرت مروءة شلهوب عند هذه الذكرى، فمد يده إلى عبه ليعطي كنته مجيديا ثمن عجنة، ولكنه استظهر على التجربة بإرادته الحديدية فلم تلك اليد وبزق على الشيطان. إن المبذرين إخوان الشياطين.

وعجت البقرة فصاح بكنته: عشي البقرة يا عمي، هذي حيوان لا يحكي ولا يبكي.

ثم عاد إلى تفكيره. أدرك أنه يضيع الوقت بالتفكير، فعذر نفسه؛ لأن العتمة تعوقه. ولو أنه ضوا السراج كانت الخسارة أجسم، فما يعمله لا يوازي ثمن الزيت، فهو إذن قد وفر.

ونام تلك الليلة بعد صراع هواجس عنيف، فرأى أحلاما غريبة: موتى يخالطهم كأنه وإياهم في شبابه، ورأى امرأته أيضا جاءت تطالبه بأشياء أشياء، وحسر اللحاف عن رأسه فرأى النور ينسل من شقوق الباب فنهض من فوره، وخرج يتمشى على المصطبة مزيحا كابوس أحلام الليل عن صدره، ولكنه غرق في أحلام اليقظة فقال: يظهر أن الله راض عني، انتظرت عزرائيل مرات وما جاء. ثم استضحك وقال: الله يبعده.

وطفق يتأمل الضيعة وإطارها الجميل، فرأى منظرا عجبا، قد يكون كان، ولكنه لم يحس به كهذه المرة. كل ما في الحقل جميل ثائر: جنت الزهور وتطاولت الأعشاب، واشرأبت شفاه البراعم، والسنونو تهبط وترتفع كأنها ترقص في الجو، فأعجبه المنظر وتذكر الموت فقال عفوا: الله يبعده.

Unknown page