كان القطار قد هدأ من سيره، وكان عقله يفكر في شيء آخر، كيف يكون وداعهما؟ هل سيومئ لها برأسه كما يفعل كل رجل مع كل امرأة لا يعرفها؟ أم سيجرؤ فيصافحها؟ إنه يتمنى ذلك، يحس شوقا شديدا لأن يلمس هذه اليد، ترى ماذا سيكون إحساسه؟ وداعبه خاطر خبيث، هذه الشفاه الباسمة، إنها أنسب مكان لوداع حار، لكنه لا يملك، لا يملك حتى مصافحة اليد.
وتجرأ حين وقف القطار فمد يده مسلما، ومدت يدها في هدوء تصافحه، وشيعته بنفس الابتسامة التي رآها أول ما رأى في وجهها المشرق.
ومضى القطار بها وحدها. •••
جلس عند ظهر ذلك اليوم يتحدث إلى زميله المهندس الآخر الذي ندب ليشاركه العمل، كان حديثهما يدور حول موضوع كل رجلين.
قال زميله: حرام أن لا تتزوج إلى الآن ... أتذكر إذ كنا في الكلية وكنت أشدنا تحمسا للزواج؟ - أجل، وما زلت متحمسا. - فلم لم تتزوج إلى الآن؟ - أتذكر الشروط التي كنت أردد أنها ضرورية في الزوجة؟ - أذكر. - فهذا الذي أنتظره، أنتظر الزوجة التي أحس حين أرى وجهها أنني أرتاح لهذا الوجه. قد لا يكون جميلا، ولكنه مريح ... الوجه الذي يبعث الراحة في النفس ويسكب التشجيع في أعصابي. إن الرجل ليحتاج قبل الطعام والفراش إلى خمر لا تضر، بل تبعث في نفسه الحياة ... هذه الخمر لا يسكبها غير عيني امرأة وشفتيها.
وضحك زميله وقال: إنك على حق، لقد عرفت ذلك أنا، وأحسسته حين تزوجت، لعلك لا تعرف أنني حصلت على ضالتي، وأنني الآن زوج منذ عامين. إني لأرجو أن توفق مثلي، لكن قل لي: لماذا لا تبحث جادا؟ - ومن قال لك إنني لا أبحث؟ - ألم توفق إلى اليوم؟
وقال كالحالم: اليوم! أظنني اليوم قد وجدت شيئا، وجدت وجهها، أحسب أنني لن أجد سواه، لكن ... - لكن ماذا؟ - لا أعرف عنها شيئا! - كيف؟! ألا تعرف من هي ولا أين أهلها؟ - أبدا. - أين؟ - في القطار.
وقهقه زميله، وأغرق في الضحك، وسادهما الصمت أخيرا، ثم قال وهو يحدق في الحجرة: إنني لا أعرفها حقا، ولم أرها إلا اليوم، لكنني مع ذلك أحس إحساسا عميقا بأنها هي؛ هي تلك التي أبحث عنها، بل أحس أكثر من ذلك، أحس أننا سنلتقي ذات يوم.
وعاودهما الصمت مرة أخرى، وأحس زميله أنه يعاني ألما؛ فاندفع يتحدث في غير موضوع واحد. كان هو خلال ذلك غارقا في عالم آخر؛ كان جالسا على مقعده بالقطار يتأمل الوجه الماثل أمامه، ولا يرى إلا العينين الحالمتين، والشفاه الباسمة على الدوام، وأفاق على صديقه يهز كتفه قائلا: ما رأيك في هذه الصورة؟
وأمسك بالصورة على مضض، وراح ينظر في غير عناية، طالعه وجه زميله يميل في حنان على رأس، امرأة، امرأة جعل يتأملها، أخفى جهده ما عراه من هزة وهو يرى وجهها، وعينيها، وفمها الباسم.
Unknown page