أتفهمون ما أعنيه؟ هذا هو عذابي.
9
في هذا الوقت من العام، يصيب النساء الضجر من الملابس الصيفية التي تكشف عن الكتفين والظهر، والمنسوجات المطبوعة، والصنادل. وها هي بشائر الخريف تهل في محلات الملابس؛ فالسترات والتنورات الثقيلة معلقة على خلفية نسيج مخملي أسود أو أرجواني اللون، والبائعات الشابات يضعن زينة مبالغا فيها وكأنهن غانيات. وعن نفسي صرت مهتمة إلى حد الهوس بالملابس؛ وكل الحوارات التي تدور في محلات الملابس تبدو منطقية بالنسبة لي. «إن هذه الفتحة حول عنقي لا تناسبني؛ ضيقة جدا. أريدها واسعة. أتعرفين ما أعنيه؟» «نعم، أعرف ما تعنينه.» «أريد شيئا أنيقا جدا ومثيرا جدا. أتعرفين ما أعنيه؟» «نعم، أعرف ما تعنينه تماما.»
عكفت لسنوات طوال على ارتداء ملابس باهتة اللون، ولكني اكتشفت فجأة أنني لم أعد أطيقها؛ فاشتريت بلوزة من الستان لونها أحمر قان، ووشاحا أرجواني اللون، وتنورة لونها أزرق داكن. وقصصت شعري، وشذبت حاجبي، وجربت أحمر شفاه أرجوانيا فاتحا، ووضعت بودرة خدود تميل إلى اللون البني. أصاب بالذعر كلما فكرت في الهيئة التي كنت أتجول بها في أستراليا، بتنورتي القطنية الباهتة الملفوفة حول خصري، وقميصي قصير الكمين، وساقي المكشوفتين نظرا للطقس الحار - وكانت أوردتهما بارزة - ووجهي العاري الذي يتصبب عرقا تحت قبعتي القطنية. وإنني لشبه مقتنعة بأن المظهر المتقن كان يمكن أن يكون له أثر أقوى، والملابس الأكثر إثارة كانت لتجعلني أقل عرضة للنبذ. أتخيل أحيانا أنني سألتقي إكس فجأة في إحدى الحفلات أو في أحد شوارع تورونتو، وأنني سأصدمه بمظهري المتغير وإشراقتي التي أزهرت مؤخرا. لكنني أذكر نفسي بضرورة الحيطة والحذر، حتى في فترات الازدهار هذه؛ يجب أن أحذر لئلا تتحول الإشراقة والأناقة إلى سخافة وحماقة. ولكن لعل كل النساء الطاعنات في السن اللائي أراهن في شارع كوين يتحرين الحيطة؛ هذه المرأة البدينة ذات الشعر الوردي، وتلك العجوز التي تجاوزت الثمانين بحاجبيها الأسودين المرسومين؛ لعلهن يعتقدن جميعا أنهن لم يتجاوزن بعد هذا الخط الذي يفصل بين الأناقة والحماقة. حتى تلك المرأة ذات الزي الأصفر التي رأيتها منذ أيام قلائل في الترام - تلك المرأة القصيرة المكتنزة التي بلغت العقد السادس من عمرها بثوبها الأصفر المكشكش الذي يعلو ركبتيها بمسافة، وقبعتها المصنوعة من القش بشرائطها الصفراء، وحذائها الخفيض الأصفر، الذي يتماشى مع لون ثوبها، في قدميها الصغيرتين الممتلئتين - حتى هي لا تنشد سخرية الآخرين؛ فهي ترى نفسها زهرة أمام المرآة؛ زهرة ذات بتلات سخية تشع ضوءا أصفر بديعا.
انطلقت بعد ذلك بحثا عن أقراط؛ فطفت طوال اليوم أبحث عن أقراط أراها في مخيلتي بوضوح. أريد أقراطا مدلاة على شكل كرة فضية صغيرة مفرغة ومزركشة. أريد فضة قديمة وغير براقة نوعا ما. وهو نوع أقراط أتذكره جيدا. ربما تعتقد أن محلات الأغراض المستعملة تبيعه بلا شك، لكنني لم أستطع العثور عليه، ولا حتى أي شيء قريب الشبه به، ولا تفتأ هذه الأقراط تبدو ضرورية بالنسبة لي؛ ولذا دلفت إلى محل صغير في شارع جانبي على مقربة من شارع كوليدج آند سبادينا؛ جدران المحل كلها مزدانة بورق أسود ومؤثرات رخيصة ومرعبة؛ فهاك على سبيل المثال تمثال عار لعارضة أزياء صلعاء تجلس على سلم نقال ويتدلى منها بعض الحلي، وثمة فستان - كتلك الفساتين التي ارتديتها في الخمسينيات للرقص - مصنوع من نسيج شبكي وردي اللون ومزدان بنثار لامع، خشن من تحت الإبطين، معروض على ورق الحائط الأسود بطريقة تجعله يبدو مقبضا وإن كان جذابا.
وفي هذا المحل جلت ببصري بحثا عن درج المجوهرات. كانت البائعتان منشغلتين بمساعدة زبونة على تلبية متطلباتها، وكان يفصلها عني مرآة ثلاثية الجوانب فلم أكن أراها. كانت إحدى البائعتين بدينة وقريبة الشبه بالغجر، وقد لونت وجهها بلون مشمشي دافئ، والأخرى تصفف شعرها كعرف الديك، حيث تعلوه خصلة بيضاء يحيط بها شعر أسود فاحم، كالظربان الأمريكي. وكلتاهما تصيح سعادة بينما تحضران القبعات والحلي للزبونة حتى تجربها. وفي النهاية، يسعد الجميع وتخرج شابة جميلة، وهي ليست بشابة في حقيقة الأمر بل صبي جميل يرتدي زي النساء، يخرج من وراء المرآة. فكان يرتدي ثوبا مخمليا أسود اللون طويل الأكمام ووشاحا أسود مزركشا على الكتفين، وينتعل حذاء خفيضا أسود، وفي كفيه قفاز من اللون نفسه، وعلى رأسه قبعة سوداء صغيرة ذات برقع منقط. وكان على وجهه بعض الزينة الأنيقة، كما تتدلى خصلات الشعر المجعد بنية اللون من تحت القبعة. لا شك أنه أجمل شخص أنيق وقعت عيناي عليه طوال اليوم. وكان وجهه الباسم متوترا ومرتجفا. أذكر عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري كان يحلو لي أن أبدو كعروس ليلة زفافها مستعينة بالستائر القديمة، أو كامرأة تزدان بأحمر الشفاه وقبعة مكسوة بالريش. وبعد كل الجهد المبذول والابتكار وافتتاني الشخصي بالنتيجة النهائية، أصاب بخيبة أمل شديدة. ماذا يفترض أن تفعل الآن؟ الاستعراض على الرصيف جيئة وذهابا؟ ثمة خوف شديد وجرأة وخيبة أمل في هذا الضرب من الاستعراض.
كان صوته صبيانيا أجش، وكان هو نفسه متسرعا وخجولا. «كيف أبدو يا أماه؟» «تبدو رائع الجمال!»
10
أعيش حالة من الاكتئاب حاليا. وأستطيع أن أدرك ذلك. لا بد أن هذا يعني أنني سأتجاوزها.
لا شك أنني أعيش حالة من الاكتئاب؛ فلا أقدر على التعامل مع كل ما يجثم على صدري ما لم أحصل على المساعدة، وإنني لا أريد سوى مساعدة شخص واحد وحسب: إكس. لا أستطيع أن أواصل المسير في الشوارع ما لم يكن لي وجود في عقله وفي عينيه. كثيرا ما يعاني الناس هذه المشكلة، وإننا لنعلم أن المشكلة مشكلتهم الخاصة وأنهم لا بد أن يغيروا الطريقة التي يفكرون بها، هذا كل ما في الأمر. إنها ليست مشكلة تستحق التفكير؛ فالحب ليس شيئا خطيرا، مع أنه قد يكون قاتلا. قرأت هذه العبارة في مكان ما، وإنني لأومن بها. الحمد لله أنني لا أعلم مكانه؛ فلا يمكنني الاتصال به هاتفيا، أو مراسلته، أو التربص به في الطريق.
Unknown page