لم يبلغ لورانس قائد الطاقم سن الأربعين بعد، ولكنه كان ناجحا. كان سعيدا وهو يحكي عن نفسه. كان مقاول عمالة مستقلا، ويملك منزلين في سانت ستيفن، ويملك أيضا سيارتين وشاحنة وقاربا. أما زوجته فكانت معلمة. ورغم خصره السمين، ككرش سائق شاحنة، فقد بدا نشيطا ومفعما بالحيوية. ويمكن ملاحظة ذكائه المتجلي بصورة كافية، في معظم المواقف، محققا أغراضه الخاصة؛ بثقة كافية وقسوة كافية. وقد تبدو عليه البهرجة وهو متأنق، وثمة أماكن وأشخاص معينة يمكنها أن تثير لديه الاكتئاب والقلق وتجعله عدائيا.
قال لورانس إنه ليس كل ما كتب صحيحا - كل الأمور التي كتبوها عن الماريتايمز. وقال إن ثمة الكثير من فرص العمل لمن لا يهاب العمل، رجالا كانوا أم نساء. وقال إنه لم يكن ضد حرية المرأة، لكن الحقيقة كانت - وستظل دائما - أن هناك أعمالا يجيدها الرجال أكثر من النساء ، وأعمالا تجيدها النساء أكثر من الرجال، ولو هدأ الطرفان وأدركا ذلك فسيكون كلاهما أكثر سعادة.
قال إن أبناءه وقحون، وإن حياتهم مريحة؛ فهم يحصلون على كل شيء - هكذا هي الحال هذه الأيام، وما بيد المرء حيلة. الأطفال الآخرون يحصلون أيضا على كل شيء: ثياب ودراجات وتعليم وأسطوانات. أما هو، فلم يحصل على أي شيء بسهولة؛ كان يخرج ويعمل ويقود الشاحنات. فذهب إلى أونتاريو، حتى بلغ ساسكاتشوان. ولم يبلغ سوى الصف العاشر في المدرسة، ولكنه لم يسمح لذلك بأن يعيقه. ومع هذا، كان يتمنى أحيانا لو نال قسطا أكبر من التعليم.
قال يوجين وفينسنت، اللذان يعملان لدى لورانس، إنهما لم يتخطيا قط الصف الثامن، في الوقت الذي كان هذا أقصى ما يمكن للطفل بلوغه في المدارس الريفية. كان يوجين في الخامسة والعشرين، بينما كان فينسنت في الثانية والخمسين. وكان يوجين كنديا من أصول فرنسية ينتمي إلى شمال نيو برانزويك، وبدا أصغر من سنه. كان وجهه ورديا، ونظرته حالمة ومراوغة، يتمتع بجمال ذكوري رغم أنه كان لين الجانب ودمثا وحييا. نادرا ما يوجد رجال أو صبية يتسمون بهذا المظهر اليوم. أحيانا ترى هذا المظهر في صورة قديمة، لعريس أو لاعب سلة، بشعره الكثيف الممشط والمبلل بالماء، ووجهه الطفولي المتورد في جسد رجل يافع. لم يكن يوجين حاد الذكاء، أو ربما لا يميل إلى التنافس. خسر أمواله في اللعبة التي كانوا يلعبونها؛ كانت لعبة بأوراق الكوتشينة يسمونها «سكات». تذكرت ليديا أنها لعبت هذه اللعبة في طفولتها، وكانت تسميها «واحد وثلاثون». كانوا يلعبون مقابل ربع دولار لكل دور.
لم يعترض يوجين على إغاظة فينسنت ولورانس له بسبب خسارته في اللعبة، ولأنه ضل طريقه في سانت جون، وبسبب النساء اللائي كان يحبهن، ولكونه كنديا فرنسيا. وبلغت مضايقات لورانس له حد التنمر. حرص لورانس على أن يرسم على وجهه تعبيرا وديا، ومع ذلك بدا كما لو أن شيئا قاسيا وثقيلا موجود بداخله - قدر كبير من الاعتداد بالنفس كان يثقل حركته بدلا من أن يدفعه إلى الأمام . لم يكن فينسنت يحمل هذا العبء الإضافي، ورغم أنه أيضا كان قاسيا في مضايقاته - إذ كان يضايق لورانس مثلما يضايق يوجين - فلم يكن هناك إحساس بالقسوة أو الخطر. وبإمكان المرء أن يلحظ أن نبرته الطبيعية هي نبرة دردشة عادية وسخرية عفوية. كان حادا وماكرا، ولكنه لم يكن لحوحا. وكان دائما قادرا على ذكر أكثر الأشياء بعثا على التشاؤم دون أن يبدو تعيسا.
كان فينسنت يملك مزرعة، كانت ملكا لعائلته من قبله، وقد نشأ فيها، بالقرب من سانت ستيفن. قال إن المرء ليس بوسعه اليوم جني ما يكفي من المال للإنفاق على نفسه من الزراعة وحسب. في العام الماضي، زرع محصول البطاطس، وكان هناك صقيع في شهر يونيو، وسقطت الثلوج في سبتمبر. كان موسما قصيرا جدا بلا شك. وقال إن المرء لا يستطيع أن يتنبأ بحدوث أشياء كهذه. والسوق كلها تحت السيطرة الآن، حيث يديرها التجار الكبار والمصالح الكبرى. وكل امرئ يفعل ما بوسعه، بدلا من الاعتماد على الزراعة. كما تعمل زوجة فينسنت أيضا. فقد تلقت دورة تدريبية وتعلمت تصفيف الشعر. لم يكن أبناؤه مجتهدين في العمل مثل والديهما. كل ما يحبون عمله هو التجوال بالسيارات محدثين ضجة. وهم متزوجون، وأول شيء تريده زوجاتهم هو فرن جديد؛ يردن فرنا يطهو فعليا الغداء ويضعه على المائدة.
لم تكن هذه هي عادة الأمور. فأول مرة امتلك فيها فينسنت حذاء برقبة خاصا به - حذاء جديدا لم يلبسه أحد قبله - كانت عندما التحق بالجيش. وكان سعيدا لدرجة أنه سار إلى الخلف وسط الأوحال ليرى الآثار التي يتركها حديثة وكاملة. وفي وقت لاحق، بعد الحرب، اتجه إلى سانت جون ليبحث عن عمل. كان منشغلا في البيت بأعمال المزرعة لمدة، حتى بليت ثياب الجيش - فلم يكن متبقيا لديه سوى بنطال واحد لائق. وفي إحدى الحانات بسانت جون، قال رجل له: «هل تريد امتلاك بنطال مقبول ورخيص؟» فأجاب فينسنت بنعم، فقال له الرجل: «اتبعني.» وهكذا تبعه فينسنت. وأين انتهى بهما المطاف؟ لدى الحانوتي! فالحقيقة أن عائلة الشخص المتوفى عادة ما تجلب معها حلة لإلباسه إياها، وهو لا يحتاج سوى أن يرتدي ما يستره حتى الخصر، هذا كل ما يظهر في التابوت. ومن ثم باع الحانوتي البنطال؛ هذا حقيقي. أعطى الجيش فينسنت أول حذاء جديد برقبة، بينما تبرعت الجثة بأفضل بنطال ارتداه يوما، حتى ذلك الوقت.
كان فينسنت دون أسنان، وكان هذا يظهر بوضوح من الوهلة الأولى، ولكن لم يجعله هذا يبدو دميما، وإنما عمق مظهره المتكتم والساخر. كان وجهه طويلا وذقنه غائرا، ولم تكن نظرته مثيرة للاهتمام ولكنها أيضا ليست بالساذجة. كان رجلا هزيلا، غير أنه لم يفقد قدرته العضلية، وكان شعره أسود مائلا للرمادي. بوسعك أن ترى جميع سنوات الكفاح بادية عليه، وبعض السنوات اللاحقة أيضا، وعلى الجسد كذلك، حتى استحال إلى عجوز لا يقوى على شيء، متضائل الوزن، غير شكاء، متشبث ببضع نكات.
بينما كانوا يلعبون سكات، كان الحديث صاخبا وتتم مقاطعته طوال الوقت بعبارات التعجب، أو تهديدات هزلية متعلقة باللعبة، أو الضحك. بعد ذلك أصبح أكثر جدية وخصوصية. كانوا يشربون بيرة محلية مسماة موس، ولكن عندما انتهت اللعبة اتجه لورانس إلى شاحنته وعاد ببعض زجاجات بيرة أونتاريو، التي يعتقد أنها أفضل. كانوا يصفونها ب «المشروبات المستوردة». كان الزوجان اللذان يملكان الفندق قد ذهبا مبكرا ليخلدا للنوم، إلا أن العمال وليديا كانوا جالسين في المطبخ، كما لو كان ملكا لأحدهم، يحتسون البيرة ويأكلون كنافة البحر، التي نزل بها فينسنت من غرفته. كانت كنافة البحر نوعا من الأعشاب البحرية، ذات لون بني مائل للخضرة، وكانت مالحة ولها مذاق السمك. قال فينسنت إنها آخر ما يأكله في المساء وأول ما يأكله في الصباح - فلا شيء يضاهيها. والآن بعد أن عرف التجار أنها مفيدة جدا، بدءوا يبيعونها في المتاجر مغلفة في عبوات صغيرة للغاية بسعر باهظ.
كان اليوم التالي هو الجمعة، حيث سيغادر الرجال الجزيرة باتجاه البر الرئيسي. تحدثوا حول محاولة اللحاق بمركب الساعة الثانية والنصف، بدلا من المركب الذي يركبونه عادة في الخامسة والنصف؛ لأن الأرصاد توقعت سوء حالة الجو؛ إذ من المتوقع أن يضرب أحد الأعاصير الاستوائية في نهايته خليج فوندي قبل حلول الليل.
Unknown page