في وقت ما بعد موت والدي، كنت أقرأ صحيفة قديمة على قارئ ميكروفيلم في مكتبة تورونتو، وكان الأمر مرتبطا بنص وثائقي أعمل عليه من أجل التليفزيون. استرعى اسم داجليش بصري، ثم اسم فليمينج، الذي عشت من دونه فترة طويلة:
وفاة شخص وحيد قرب داجليش
أذيع أن السيد بلاك - وهو رجل في الخامسة والأربعين من العمر - واسمه الأول غير معروف، قد مات في مزرعة السيد توماس فليمينج، حيث كان يعيش على مدار السنوات الثلاث الماضية في كوخ سمح له السيد فليمينج ببنائه في جانب من الحقل. كان يزرع البطاطس، ويعيش بشكل أساسي عليها وعلى الأسماك والطرائد الصغيرة. ويعتقد أنه جاء من بلد أوروبي ما، ولكن أطلق عليه اسم بلاك، ولم يكشف عن تاريخه. وفي مرحلة ما من حياته، فقد إحدى ساقيه؛ مما دفع البعض إلى تصور أنه ربما كان جنديا. وكان هناك من يسمعه وهو يتحدث إلى نفسه بلغة أجنبية.
منذ ثلاثة أسابيع تقريبا، تقصى السيد فليمينج عن أحوال الرجل بعد أن توقف الدخان عن الانبعاث من كوخه، فوجده طريح الفراش. كان يعاني من سرطان في اللسان. أراد السيد فليمينج نقله إلى منزله الخاص ليعتني به ولكن السيد بلاك رفض، رغم أنه وافق في النهاية على نقله إلى حظيرة السيد فليمينج، حيث ظل هناك، في طقس معتدل، تعتني به بنات السيد فليمينج الصغيرات اللاتي يسكن في المنزل. وهناك مات، ودفن بناء على طلبه بجوار كوخه، حاملا لغز حياته معه.
بدأت أفكر في رغبتي في رؤية الحجر، ورؤية ما إذا كان لم يزل هناك. لم يعد أحد من أقاربي يعيش في هذا البلد بعد الآن. قدت سيارتي في يوم أحد من شهر يونيو، واستطعت أن أتجنب داجليش تماما بعد أن تغير الطريق السريع. توقعت أن أواجه بعض الصعوبة في إيجاد المزرعة، ولكني بلغتها قبل أن أصدق أن هذا ممكن. لم تعد مكانا نائيا. فقد استقامت الطرق الخلفية، وشيد جسر خرساني جديد ومتين من حارتين. واقتطع نصف قمة هيبرون من أجل إنشاء طريق مغطى بالحصى، بينما زرعت الحقول العشبية البرية بالذرة.
كان مخزن العربات التي تجرها الخيول - المبني بالخشب - قد اختفى من المشهد الجديد، واكتسى البيت من الخارج بألواح من الألومنيوم ذات لون أخضر فاتح. وكانت هناك عدة نوافذ واسعة جديدة. كما تحول الرصيف الإسمنتي الذي كان يوجد في الواجهة، حيث اعتادت عماتي الجلوس على كراسيهن مستقيمة الظهر لمشاهدة الطريق، إلى فناء مرصوف يضم أحواضا لنباتات القويضة وإبرة الراعي، ومنضدة معدنية فوقها مظلة، بالإضافة إلى الأثاث المعتاد القابل للطي ذي الشرائط البلاستيكية اللامعة المستخدمة في تنجيد الكراسي والأرائك.
كل هذا جعلني أرتاب في الأمر، ولكني طرقت الباب على أية حال. أجابتني امرأة شابة حامل، ودعتني للدخول إلى المطبخ، الذي كان عبارة عن غرفة مبهجة، يفترشه مشمع الأرضية الذي بدا كالطوب الأحمر والبني، ويحوي دواليب مبنية في الجدار بدا خشبها أشبه كثيرا بخشب القيقب. كان هناك طفلان يشاهدان فيلما تليفزيونيا بدت ألوانه متلاشية بسبب سطوع ضوء النهار، وزوج شاب يبدو جادا ويعمل على آلة حاسبة، وكان من الواضح أنه غير منزعج بالضوضاء التي يصدرها التليفزيون مثلما لم ينزعج طفلاه بضوء الشمس. خطت المرأة الشابة فوق كلب ضخم لتغلق صنبور الحوض.
لم ينفد صبرهما وهما يسمعان قصتي، على عكس ما حسبت. في الحقيقة كانا مهتمين بالأمر ومتعاونين، وكانا يعلمان بعض الشيء عن الحجر الذي أبحث عنه. قال الزوج إن قطعة الأرض الموجودة على الجانب الآخر من الطريق لم تبع لأبيه، الذي اشترى هذه المزرعة من عماتي؛ إذ كانت قد بيعت من قبل. كان يعتقد أن الحجر موجود هناك، وقال إن والده أخبره بأن ثمة رجلا مدفونا هناك، تحت صخرة كبيرة، حتى إنهما قد ذهبا للتمشية ذات مرة ليلقيا نظرة عليها، ولكنه لم يتذكر أمرها لسنوات. وقال إنه سيذهب ليبحث عنها الآن.
اعتقدت أننا سنتوجه إليها مشيا، ولكننا عبرنا الطريق بسيارته. ترجلنا منها وخطونا بحذر داخل حقل الذرة. بلغت الذرة ركبتي تقريبا؛ ما يعني أن الحجر واضح بالضرورة على مرأى العين. سألت إن كان الرجل الذي يملك هذا الحقل سيمانع وجودنا، فرد مالك المزرعة بالنفي، فالرجل لم يقترب من الحقل قط، ويؤجر شخصا آخر ليعمل فيه بدلا منه. «إنه رجل يملك ألف فدان ذرة في مقاطعة هورون وحدها.»
قلت له: إن أصحاب المزارع أصبحوا أشبه برجال الأعمال اليوم، أليس كذلك؟ بدا الرجل سعيدا بقولي هذا، وبدأ يشرح لي السبب. ثمة مخاطر يجب تقبلها، والنفقات تبلغ عنان السماء. سألته ما إذا كان يملك واحدا من تلك الجرارات ذات الكابينات المكيفة فرد بالإيجاب. وتابع: لو أحسن المرء إدارة أموره، فستكون المكاسب - وأقصد المكاسب المادية - ضخمة، ولكن هناك محن ومصائب لا يعرف معظم الناس عنها شيئا. في الربيع القادم، لو سارت الأمور على ما يرام، فسيذهب هو وزوجته لقضاء أول عطلة لهما. سيتجهان إلى إسبانيا. لكن الطفلين يريدانهما أن يتغاضيا عن إجازتهما ويبنيا حوض سباحة، ولكنه كان يريد السفر. إنه يملك مزرعتين الآن، وكان يفكر في شراء مزرعة ثالثة. وفي اللحظة التي طرقت فيها بابه كان يحسب حسبته. من ناحية لم يكن يستطيع شراءها، ومن ناحية أخرى لم يكن يستطيع ألا يمتلكها.
Unknown page