وكتبت بيدي لافتة وضعتها في وسط الطريق أمام مطبعة العجمي وعليها عبارة «أيها الشعب ... أنا الشعب»، ونسيت في وسط هذه الحماسة ذكر قصتي وما كنت أعلقه على نشرها من الاهتمام وكنت أقضي يومي كله وجزءا كبيرا من الليل في اجتماعات وخطابة وتدبير الخطط واجتذاب الأنصار، واجتمع لنا عدد كبير من شبان المدينة، ولكن صاحبي عبد الحميد أصر على الابتعاد عن هذه «المهزلة» وقال عندما فاتحته في الانضمام إلينا: لقد شاهدت هذه الملهاة التافهة مرارا حتى مللتها.
ولكن رفضه الانضمام إلينا لم يزدني إلا إصرارا على عزيمتي، وبدأت أحس أن إيمانا جديدا بدأ يقوى ويتجدد في نفسي، هؤلاء المساكين الذين تطحنهم الحياة لا يجدون لسانا ينطق بآلامهم، فعلينا أن ننطق نحن من أجلهم، هذه الألوف المؤلفة من الجياع العراة الجهلة لا يجدون من يعطف عليهم، وعلينا نحن أن نعمل من أجلهم، وكانت الخطب التي ألقيها تزيد يوما بعد يوم والأنصار الذين يحيطون بنا يتضاعفون ساعة بعد ساعة، واعتقدنا جميعا أن العجمي قد اجتاح منافسيه في الانتخابات بغير جدال.
وتواعدنا قبل موعد الانتخاب بأربعة أيام على عقد اجتماع كبير في مسجد التوبة بعد العشاء؛ لأننا كنا لا نقدر على إقامة سرادق كبير يتسع للجموع التي اعتادت أن تتوافد على محافلنا.
ولما بدأ الاجتماع تعاقب الخطباء واحدا بعد واحد يتحدثون عن الشباب المخلص والأحزاب المزيفة التي ضلت الطريق، والحرية التي تتطلب الدماء، والجهاد الوطني من أجل الجلاء، وجاء دوري فأعلن منظم الحفلة اسمي ووصفني بالأديب الكبير والخطيب القدير، وأضاف إلى ذلك عددا آخر من الصفات جعلني أخجل، وإن كنت في الوقت عينه امتلأت زهوا وثقة بنفسي.
وقمت لأتكلم فبدأت بطيئا هادئ الصوت، ورتلت بعض عبارات موزونة كنت نمقتها وحفظتها، وأضفت إليها ألفاظا رنانة وسجعات مختارة فطرب السامعون لها، وتعالى تصفيقهم إعجابا واطمأنت نفسي إلى ذلك وبدأت أتدفق، فمن شاء أن يكون خطيبا ناجحا، فعليه أن يتحقق أولا من الاستيلاء على عواطف سامعيه فيكون بذلك كأنه يعوم على اتجاه تيار الماء.
وكان لذلك الاجتماع دوي كبير في المدينة في اليوم التالي، وتحدث به الناس مرددين ما قيل، وتجادلوا فيه بمجالسهم، فمنهم من أنكره ووصفه بالدعوة إلى الثورة، ومنهم من رضي عنه ووصفه بالإصلاح، ولكن الجميع آمنوا بأن الأمر قد انتهى إلى فوز مرشح الشباب محمود العجمي.
ولم يبق على يوم الانتخاب إلا يومان، فاستقر رأينا على أن نضرب الضربة الأخيرة في الليلة المقبلة، وتواعدنا على الذهاب بعد العشاء إلى المسجد وأذعنا في أنحاء المدينة أنه الاجتماع الأخير، ولم ندخر وسعا في نشر الدعاية بكل ما استطعنا من الوسائل، حتى لقد استأجرنا ثلاث سيارات تجوب الأحياء، وفي كل منها مذياع لإعلان موعد الاجتماع ومكانه.
وبكرت قبل الموعد بنصف ساعة ذاهبا إلى المسجد، وكنت قد أعددت في نفسي حديثا ناريا تخيرت له مقدمة مسجوعة تأنقت في عباراتها، وكنت وأنا سائر في الطريق إلى المسجد أرددها وأستمع إلى جرس ترتيلها لأقدر موقعها من نفوس السامعين إذا بدأتهم بها، ولما وصلت إلى منعرج الطريق إلى الشارع الضيق الذي فيه المسجد، وجدت بعض جنود الشرطة يسدون منفذ الطريق وهم يلبسون الخوذ الحديدية، ويمسكون في أيديهم العصي الغليظة، وهب الضابط رئيسهم عن كرسيه فسألني عن وجهتي، فلما أجبته قال لي في جفاء: «إن المسجد مغلق.» فأدهشتني المفاجأة وأخذت أجادله فأمسك بكتفي في غلظة ودفعني قائلا: «تفضل!»
وهممت أن أدفعه كما دفعني، ولكني تذكرت أن ذلك قد يؤدي إلى عقد لا ينبغي أن أتورط فيها في ذلك الوقت، وانصرفت عنه في مظهر التحدي الصامت، ولما بعدت عنه وقفت مترددا أفكر في ذلك الطارئ الذي لم نتوقعه، ولم أدر كيف نستطيع أن نتدارك الأمر، وتلفت حولي لعلي أرى أحدا من أصحابي وأنا قلق حانق، فرأيت بعد بضع دقائق أربعة منهم يجرون أقدامهم في خذلان ويقبلون من ناحية طريق المسجد، فأسرعت إليهم ليفرغ كل منا حنقه إلى الآخرين، وكاد شعورنا بالخيبة يصرفنا إلى أن نيئس وننفض أيدينا من الأمر كله، ثم اتفقنا على أن نذهب إلى العجمي لنرى رأيه، ولعلنا نجد عنده بعض أصحابنا الآخرين فنتداول الرأي فيما نصنع بعد هذه الصدمة، وكانت أفواه الطرق إلى بيته مغلقة بجماعات من رجال الشرطة، فاضطررنا إلى أن نتفرق أفرادا ونتسلل من الحواري الضيقة إلى البيت، وكان العجمي هناك يغلي حانقا لأنه سبقنا إلى المسجد وحدث له مثل ما حدث لنا، واجتمع إلينا بعد قليل عدد كبير من أصحابنا وأغلقنا علينا الأبواب وأطفأنا الأنوار إلا شمعة ضئيلة في الغرفة التي كنا بها في آخر البيت.
وبعد ساعة من جدال عنيف أجمعنا الرأي على أن نقيم لنا سرداقا كما يقيم الآخرون سرادقات لهم، فإن الإدارة لن تجد سبيلا علينا ما دامت تبيح ذلك لغيرنا، وتبرعت في حماستي بخمسة جنيهات، واندفع بعض الأصحاب يتبرعون حتى اجتمع لنا ما يكفي لإقامة السرادق واستئجار الأثاث والمصابيح، ولم أعد إلى منزلي في تلك الليلة إلا في ساعة الفجر بعد أن اتفقنا مع الفراش على إقامة سرادقنا في فضاء واسع في جنوب المدينة.
Unknown page