ووصلت إلى منزلي وأنا أقلب هذه الأحاديث في نفسي، ودخلت إلى غرفتي واستلقيت على الكرسي الأسيوطي القديم الذي اشتريته منذ شهر من أحد تجار الأثاث المستعمل، وجعلت أدير بصري في الغرفة، وأحسست أنها تضيق بي وأن جدرانها تقترب من كل جهة لتنطبق علي وتحطمني، وقمت لأسير فيها حتى أتحقق من أن الجدران ثابتة في مكانها وكانت الغرفة لا تزيد على ثلاثة أمتار في أربعة، فما أكاد أخطو بها خطوتين حتى أرتد إلى الناحية الأخرى كأني وحش في حظيرة، فعدت إلى الكرسي واستندت برأسي إلى ظهره وجعلت أسبح في أفكار هائمة. كل شيء يتحرك حتى الجمادات وأما أنا فإني ما أزال كما كنت منذ سبع سنوات ، ولا أدري ماذا تغير مني. ماذا يدل على هذا النمو الذي كان عبد الحميد يتحدث عنه؟
ولماذا أخجل من فكرة التقدم لامتحان البكالوريا؟ اليوم الجمعة وغدا السبت وآخر موعد للقيد في الامتحان يوم الأحد، فإما الآن وإما لا، وقمت خارجا من غرفتي عازما على أن أعود إلى صاحبي لأفاتحه فيما قصدته من أجله منذ قليل، ولما بلغت ضريح أبو طاقية وقفت لأقرأ الفاتحة وانشرح صدري وأسرعت في سيري حتى وصلت إلى بيت صديقي، ولما لقيته تبسمت قائلا: أما قلت لك إنك ستراني أكثر مما تحب؟
فجذبني من يدي قائلا: الحديث بيننا لم ينته بعد.
فقلت مبادرا: لم أعد إليك لأتمم هذا الحديث، ولا أريد أن أضيع وقتك، أو بقول آخر: لا أريد أن أضيع وقتي، فالحقيقة أني كنت آتيا إليك أول مرة لأقول لك شيئا سخيفا ثم خجلت أن أقوله. أليس من المضحك أن أفكر في التقدم إلى البكالوريا بعد هذه المدة الطويلة؟
وسكت لأرى أمارات الدهشة على وجه صاحبي، ولكن وجهه كان أصفى من صفحة غدير رائق.
وقال باسما: أظنها فكرة حسنة.
وكنا قد بلغنا غرفة الانتظار، وجلس إلى جنبي قائلا: أعتقد أنك لن تجد صعوبة في النجاح.
فوثب قلبي إلى حلقي من السرور وقلت: أتظن هذا؟
فقال: أعرف أنك كنت دائما تحب القراءة، ولا شك في أنك كنت تقرأ وتكتب.
وشعرت من نظرته ومن نبرات صوته أنه لا يجامل ولا يقصد أن يشجعني، فقلت: سأقدم على المغامرة وآخذ نصيبي. إذن فأنت ترى أنها فكرة لا تبلغ من السخافة ما كنت أظن.
Unknown page