وذهبت في اليوم التالي إلى عملي في المحلج بقلب خفيف، وكان ضغط العمل شديدا، ولكني لم أشعر منه بتعب ولا ضيق، ولم أعبأ بمصطفى عجوة الذي كان في ذلك اليوم على غير عادته يتظاهر بالسلطان ويسير هنا وهناك بين بالات القطن صائحا بالعمال شاتما مؤنبا كأنه يريد أن يقول: «أنا هنا.»
ولما أوشك عمل الصباح أن ينتهي جاء مصطفى إلي ووجهه يلمع أكثر من عادته وقال لي بصوته المجوف: ألا تحب أن تشرب معي كوبا من الشاي؟
وكان أول خاطر هم بنفسي أن أقول له: «امش من هنا.» ولكني لم أجبه ومضيت في عملي صامتا، فعاد قائلا: «عندي كلام هام أريد أن أقوله لك.» فثار الفضول في نفسي برغم اشمئزازي منه وقلت له: ليس عندي غير ربع ساعة.
فقال ضاحكا: بركة. يكفيني الشرف يا سيد أفندي.
وانتظر حتى فرغت مما في يدي وسار معي واضعا يده تحت ذراعي كأحسن ما يكون الأصدقاء، ولما دخلنا إلى قهوتنا المعتادة صاح بالخادم: اتنين شاي!
وجلست إلى الجانب الآخر من المنضدة متحفزا له بكل أعصابي كأني أعتزم منازلته.
وبدأ قائلا: عندي لك نصيحة يا سيد أفندي.
فصحت متعجبا: هل جئت معك لأسمع نصائحك؟
فقال باسما: لا تغضب قبل أن تسمع. هي نصيحة إذا أردت وإلا فهي بشرى. خبر سار تعمدت أن أقوله لك لأبرهن لك على صدق مودتي، وإن كنت أعرف أنك لا تصدقني. النهاية اعمل الجميل وارمه في البحر. على فكرة. لماذا لم تقل لي السلام عليكم وأنت منصرف بالأمس.
وضيقت عيني وأنا أنظر إلى وجهه فاحصا ولم أنطق بحرف واستمر هو يقول: النهاية يا سيدي على رأي الشاعر: «تظهر لك الأيام ما كنت جاهلا.»
Unknown page