فقالت: أتذهب لعمك؟
ولم أكن أنتظر منها أن تفكر في هذا؛ لأني أعرف أن عمي كان على خلاف شديد مع أبي قبل وفاته، حتى إنه لم يحضر إلينا عند موته.
وقلت لأمي: لا أذهب إليه أبدا، وماذا لو تخلى عني؟ أظنك تعرفين السيد أحمد جلال.
قلت ذلك لأني تذكرت أن السيد أحمد جلال جارنا القديم كان كلما رآني يبدؤني بالسلام، وكان من أول من زارنا للتعزية، وكرر علي أن أزوره إذا احتجت إلى مساعدة.
فقالت أمي مرتاحة: جارنا القديم والله يا سيد، لا مانع أبدا. هو صاحب كلمة مسموعة والست نور الله يحميها، والله كان من الواجب أن أزورها من زمن.
واتفقنا على أن نقوم من ساعتنا إلى بيت السيد أحمد جلال، وكان قد انتقل من حارتنا منذ عشر سنوات إلى بيته الجديد في حي «أبو الريش».
وكان السيد أحمد جلال في مبدأ أمره تاجرا صغيرا، ثم اتسعت تجارته وأنشأ محلجا عظيما، وأصبح في مدة الحرب الأخيرة أكبر تاجر قطن في المدينة، وكان صديقا لأبي، وكثيرا ما كان أبي يبعثني إليه بخطاب لآخذ منه سلفة على القطن في مدة الصيف كما هي عادة الزراع.
وعندما كان يقيم في حارتنا كانت أمي تزاور امرأته السيدة نور، وكنت كثيرا ما أذهب معها، وكانت ابنته منى طفلة صغيرة ظريفة تشبه الدمية ذات الشعر الأصفر، فإذا ذهبت إلى هناك أسرعت تجري نحوي، وطلبت مني أن أركبها فوق كتفي كأني حصان، ثم تدلي رجليها من أمام صدري وتهزها فأجري بها مقلدا وثبات الخيل وأصهل كما يصهل الحصان فتضحك مكركرة، وتطلب أن أعيد الجري والصهيل مرة أخرى، وأذكر أني ذهبت مع أمي للزيارة مرة في يوم من أيام الشتاء وكانت أختي منيرة معنا، وكانت طفلة في مثل سن منى في حوالي الثالثة أو الرابعة، وركبت منى فوق كتفي كعادتها وطلبت مني أن أجري، وكانت الحارة زلقة على أثر مطرة ثقيلة فانزلقت بها ووقعنا معا في بركة من الطين، فبكت منى وأخذت منيرة تبكي هي الأخرى وهي واقفة على الرصيف، وتحملت وحدي في ذلك اليوم لوما شديدا من أمي؛ لأني تسببت وفي وقوع منى.
ومع أني أنا الذي اقترحت على أمي أن تذهب إلى السيد أحمد جلال، فإني شعرت بضيق شديد عندما نزلنا متجهين إلى منزله؛ لأني استصعبت أن أطلع ذلك الجار القديم على أني تلميذ خائب قطعت دراستي، ولم أجد عملا حتى لجأت إلى مساعدته ليجد لي وظيفة أتكسب منها.
ولكني تغلبت على نفسي وجاهدت شعور المرارة الذي غمرني، ولم أنطق بكلمة حتى وصلنا إلى البيت، وكان بناء فخما تحيط به حديقة يانعة واسعة، ودخلت أمي إلى الدار وذهبت أنا إلى جناح الضيوف، وكان من حسن حظي أن السيد كان هناك، فاستقبلني مرحبا، وأذهبت سماحته ما كان في نفسي من الانكسار، وطلب لي شرابا من المنجة، وأخذ يحدثني حديث جار قديم لا تكلف فيه، ولأول مرة بدأت أعرف الرجل؛ لأني كنت لا أراه قبل ذلك إلا من بعيد كما يرى الطفل رجلا، وشعرت بشيء كثير من الرضى عندما بدأ يحدثني كرجل.
Unknown page