181

يا خبر! سجن الاستئناف؟ دخلت إلى ذلك السجن من قبل مرة عندما ذهبت مندوبا عن الجريدة لأشهد إعدام أحد كبار المجرمين. كان منظرا لا أنساه أبدا عندما رأيت المسكين قبل أن تعصب عيناه ليصعد فوق المشنقة، فقد كان ينظر في فزع شديد إلى الحبل المعلق الذي سيحتوي على عنقه، وجعل يقول لمن حوله بصوت مرتعد: «اطلبوا لي الرحمة يا ناس!»

فلم أطق أن أستمر في موقفي؛ إذ كان من المؤلم لي أن أرى الرجل ينهار هكذا، لو نظرت إلى ذئب جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة لما أعجبني منه أن يمأمئ مثل الشاة مستغيثا متخاذلا؛ فالأجدر به أن يموت ذئبا وحشا مستعدا للهجوم إلى آخر لحظة من حياته، كنت لا أتألم هكذا لو بقي ذلك الرجل جبارا سفاكا متحديا فظيعا حتى النهاية، ولكنه صار مثل أرنب في يد الجزار يرتعد ويطلب الدعاء بالرحمة.

ومن ذلك اليوم اعتقدت أن سجن الاستئناف هو الذي حول هذا الجبار إلى رجل منهار، ومن أجل هذا كرهته.

فهل أنا ذاهب إليه كما يذهب إليه القتلة؟

أأذهب إليه لأني أكتب مقالات أترجم فيها عما أحسه ويحسه الناس من غضب على الفساد والطغيان والحكم الذي يذلنا ويسقطنا ويدنس أرواحنا؟

ودخلنا سجن الاستئناف، ومنذ دخلته أصبحت مثل شيء تتلقفه الأيدي ولا إرادة له، سلمني الشرطي إلى المأمور، وسلمني المأمور إلى سجان، وسار بي السجان إلى الغرفة التي خصصت لي ورقمها 298، ومنذ اللحظة التي دخلت فيها إلى الغرفة صرت رقما مجردا سابحا في الفراغ، فرقم 298 يصعد إلى غرفته، ورقم 298 يدعى إلى النزول، ورقم 298 يتناول طعامه، وكانت الغرفة التي دخلت فيها أحسن مما كنت أنتظر؛ إذ كان فيها على الأقل سرير يمكن أن أتمدد عليه، وكانت بها نافذة عالية ذات قضبان متينة، ولم يضايقني إلا سواد لون السقف والأرض.

ولم يكن بي حاجة إلى التفكير في الذهاب إلى دورة المياه؛ لأن «الجردل» كان هناك في ركن الغرفة أستطيع أن أقوم إليه لأقضي به حاجتي بغير عناء، مرحى! لا شك في أن هذا السجن تأديب وتهذيب وإصلاح كما يقولون، ولا عجب إذا كان القاتل الجبار قد تحول فيه إلى جبان رعديد!

وجلست على السرير في شبه ذهول لا أكاد أتحقق من أني أصبحت سجينا، ولا أدري كم بقيت جالسا هكذا حتى دخل علي سجان ليضع لي غطاء نظيفا على السرير، ومع كل ما داخلني من الارتياح لذلك لم أظهر له اهتماما.

ثم جاء الرجل إلي ببعض الطعام، ولكنني لم أشعر بجوع، فرفضت أن آكل شيئا، وبقيت في حالتي الذاهلة حتى جاءني السجان مرة أخرى يدعوني إلى طابور النزهة مع سائر أرقام عالمي، فقمت خارجا لأن ساعة أقضيها في الهواء الطلق خير من الجلوس في الغرفة المغلقة.

ونزلت إلى فناء السجن وهو لا يزيد على قطعة صغيرة من الأرض تحيط بها الجدران العالية من كل جانب، وسرنا في طابور النزهة رقما وراء رقم، وجعلنا ندور حول الفناء مرة بعد أخرى، ولاحظت أن المساجين مثل سائر الناس لا يستطيعون التخلي عن الكبرياء مع أنهم يعرفون أنهم لا يزيدون على أرقام مجردة، فقد وجدت أن كثيرا منهم يتأنق في ملابسه ليظهر في الطابور كما ينبغي لمثله؛ وذلك بالطبع إذا كانوا ممن يسمح لهم بلبس الملابس الخاصة مثلي، وقبل أن ينتهي طابور النزهة دعاني مأمور السجن لمقابلته، فذهبت إليه وكنت ما أزال ذاهلا، وكانت دهشتي عظيمة عندما وجدته يستقبلني في بشاشة وعطف، ويجلسني على كرسي إلى جانب مكتبه، ثم أشار إلى حقيبة كبيرة في ركن الغرفة قائلا: «هذه حقيبتك.» وأعطاني سيجارة فأخذتها شاكرا، وداخلني شيء كثير من الأنس والارتياح وسألته: من جاء بهذه الحقيبة؟

Unknown page