واضطررت أن أستأذنه قبل أن تغلق أبواب مكاتب البريد لإرسال حوالة بريدية إلى صديقي عبد الحميد عياد؛ لكي يوصلها إلى أمي كما أفعل دائما في أول كل شهر.
الفصل السادس عشر
مضى علي أسبوع وأنا لا أكاد أفيق لنفسي من غمرة العمل، وكنت لا أكاد أجد فراغا إلا في ساعة الظهر لأخطف لقمة صغيرة حيث أكون.
وذهبت في ساعة الظهر في أحد الأيام إلى دكان الشيخ مصطفى حسنين لأشتري غدائي، فسمعته يبادرني قائلا: البقية في حياتك يا سيد أفندي.
فقلت في لهفة: ماذا حدث؟
فقال: ألست من دمنهور؟ السيد أحمد جلال: تعيش أنت! وكنت لم أقرأ صحف الصباح من كثرة مشاغلي، فأخذت «الأهرام» التي مد الشيخ بها يده، وأخذت أقرأ: «جاءنا من مراسلنا في دمنهور أن المدينة روعت على غير انتظار في ساعة متأخرة من الليلة الماضية بوفاة محسنها الكبير وزعيمها الوطني العظيم السيد أحمد جلال!»
وتخاذلت قوتي فجلست على الدكة وأنا ذاهل أعيد قراءة الخبر مرة بعد مرة، كأني لا أصدق عيني، أما كان في تمام صحته وقوته في ليلة الاحتفال بدار السيد الوجيه جمال الدين منذ أسبوع؟
وكنت كلما قرأت الخبر مرة قلت في تأثر: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولو كنت فقدت أعز الناس عندي لما شعرت بهزة أشد من الهزة التي شعرت بها عند ذلك، وامتزج في قلبي الأسف والرثاء والحزن والدهشة في وقت واحد، وغلبتني عيني فجعلتني لا أبصر من وراء غلاف الدمع، وسبحت في تأمل الحياة في خشوع العاجز الذي يظهر له عجزه على حين فجأة وهو ساه عن الحقيقة الخالدة في ضجة الحياة الزائلة، إنها دنيا صغيرة فيها أشباح تأتي صورها وتذهب فوق سحابة، ولكننا - معشر الفانين - نحسبها حقائق ثابتة.
وناداني الشيخ قائلا: أتعرفه؟
Unknown page