تناولت جانبا آخر في الخطاب الديني المعاصر، وهو بعد المرأة. وكتبت دراسة نشرت في مجلة «القاهرة»، فبراير ثلاثة وتسعين، تحت عنوان «المرأة؛ البعد المفقود في الخطاب الديني المعاصر»؛ فالخطاب العربي انتقل من خطاب نهضة إلى خطاب أزمة، والحلول المطروحة للخروج من هذه الأزمة تتركز كلها حول التراث الذي ارتبط بجوهر الإسلام، فيذهب السلفيون إلى أن الإسلام هو الحل، ويذهب الإبستمولوجيون إلى أن القطيعة مع التراث هي الحل، والتجديديون يذهبون إلى أن تجديد التراث هو الحل. والحديث عن قضايا المرأة في معزل عن سياق الواقع العام يؤدي للحديث عن الأنثى بما يستدعي المقارنة بينها وبين الذكر، وتدخل المناقشة كلها في إطار المفاهيم البيولوجية وما يترتب عليها من فروق عقلية وذهنية وعصبية، وهو الإطار العام الذي يتحرك فيه الخطاب الديني. ولأنه خطاب أزمة فإنه يلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيا لنفي الإنسان، ويتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية بحبسهم في سجن مفهوم أهل الذمة، وولاية المسلم على الذمي، المساوي لمفهوم ولاية الرجل أو قوامة الرجل على المرأة. وعملية الحضور الظاهري للمرأة في الخطاب الديني هي حضور يؤكد الفقد؛ لأنه حضور مرتهن بالنفي.
3
إن موقف مجلس قسم اللغة العربية بأساتذته وتقريرهم أعتبره قد منحني درجة الأستاذية بجدارة، وما قرار مجلس الجامعة إلا قرار إداري لا يتجاوز رفع راتبي بما قيمته وجبة واحدة لأسرة، لكن القضية هي حلم الجامعة الذي كافحت من أجله، فهل توافق جامعة القاهرة بتراثها وتقاليدها وتاريخها على تقرير تكفير لا صلة له بتقييم علمي ولا تحليل أكاديمي. ولو كان أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» - رحمه الله - موجودا ما حدث هذا.
دعاني د. «مأمون سلامة»، رئيس الجامعة المشهور بورعه ومجاورته الدائمة لمقام السيدة نفيسة، يوم الإثنين الأول من شهر رمضان، الثاني والعشرين من فبراير ثلاثة وتسعين. وبدأت عملية المواءمة؛ فكل تفكيره منحصر في الترقية والتقدم مرة أخرى. وفي حموة الحديث تساءل رئيس الجامعة: «إيه علاقة قسم اللغة العربية ب «الإمام الشافعي»؟ عملكم هو دراسة اللغة والأدب فقط، فلماذا تكتب كتابا عن «الإمام الشافعي»؟!» دار في فكري كيف لأستاذ دكتور رئيس جامعة أن يتصور أن «الإمام الشافعي» مجرد فقيه لا يدرسه إلا متخصصو الشريعة، لكن صديقي د. «أحمد مرسي» حاول أن يشرح لرئيس الجامعة قائلا: «شغل قسم اللغة العربية الأساسي هو تحليل الكلام، وما كتبه «الإمام الشافعي» كلام يهمنا تحليله، وهذا التحليل يندرج تحت مفهوم علم تحليل الخطاب، وهذا لا يتعارض مع دراسات من زوايا أخرى لنفس الكلام.»
ونائبه لشئون الدراسات العليا د. «محمد الجوهري»، بمرحه ومزاحه الدائم، يرى أن الخطر علي كامن في موافقة الجامعة على الترقية. «وما الفائدة إذا تمت ترقيتك ثم اغتالك واحد من إياهم ؟ هتنتهي المسألة بجنازة شعبية ومسيرات تندد بالإرهاب وتصبح بطلا شهيدا لفترة من الفترات وتخلدك الأغاني والشعارات ... إلخ.» وخرجت منه قهقته العالية، لكن ما لم يدركه رئيس الجامعة ونائبه أن موافقة الجامعة على تقرير التكفير سيعطي للقتلة فرصة ذهبية للذبح الشرعي.
بدأت وزارة الثقافة في إصدار كتيبات صغيرة رخيصة الثمن باسم «المواجهة»، تنشر فيها تراث مفكري التنوير، فنشرت «الإسلام وأصول الحكم» ل «علي عبد الرازق»، وكتبا ل «طه حسين ومحمد عبده وسلامة موسى»؛ مما أعطى لكثير من الكتاب المنتمين للتيارات الإسلامية مبررا للهجوم على هذه الكتب. وانتدب «جابر عصفور» ليرأس المجلس الأعلى للثقافة. وحدث انفجار أمام مقهى «وادي النيل» في ميدان التحرير بقلب القاهرة، وتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك في نفس اليوم. كانت أنباء قد تسربت عن وساطة الشيخ «محمد متولي الشعراوي» بين وزارة الداخلية وأعضاء جماعات العنف الدينية المسلحة، وأنه قد التقى «عبود الزمر»، المقدم بالمخابرات الحربية والمسجون في عملية اغتيال «السادات»، في ديسمبر الماضي، في مصلحة السجون بشارع الجلاء بوسط القاهرة. وهو اللقاء الذي يتابعه اللواء عبد الحليم موسى، وزير الداخلية، المشهور بشيخ العرب، ومن مريدي مقام السيدة نفيسة أيضا.
كتبت مقالا لجريدة «الأهرام» نشرته يوم الإثنين الثامن من مارس، بعنوان «الجامعة بين الحفاظ على الثوابت وتحقيق الإبداع»، أوضح فيه أنه لا سبيل أمامنا جميعا لتجاوز أزمتنا الراهنة إلا بنظام تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد الذهنية والعقلية بل والخيالية أيضا، وتنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون، وإشاعة مناخ الحرية في الثقافة والمجتمع، وليست الحرية السياسية فقط كحرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، بل حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون شروط مسبقة، ودون أهداف بعينها يسعى الباحث أو المفكر للوصول إليها. والجامعة هي نقطة البدء والختام، يشيع ذلك في جنباتها وداخل قاعاتها، فتعكسه في مرآة المجتمع. وفي نفس يوم نشر المقال، كان أول اجتماع لقسم اللغة العربية برئاسة الصديق العزيز «أحمد مرسي»، بعد رئاسة «جابر» للمجلس الأعلى للثقافة. خرجت من الاجتماع لطلب الدكتور «حسن حنفي» لي في شيء مهم، وكان صارم الوجه، وقال: كانت هناك اجتماعات ومشاورات، ليس مهما أن تعرف تفاصيلها، المهم هو ما أفضت إليه من نتائج. - كلي آذان مصغية. - أمامك ثلاثة اختيارات؛ الأول تكتب شكوى إلى رئيس الجامعة في الاتهامات التي يتضمنها التقرير، ويقوم هو بدوره بتحويل المسألة للتحقيق. - سبق ورفضت اقتراح الدكتور «مأمون سلامة» دا في لقائي به من أسبوعين. هو إيه موضوع التحقيق إلا أني أحاول أن أثبت أو أنفي الاتهامات، وكأننا في محاكم تفتيش، وأنا أرفض ذلك داخل الجامعة. - الحل الثاني، نظرا لموقف كلية «دار العلوم» المتشدد، وتهديد رجالها بتحريض الطلاب، نرى من الأفضل أن يكون القرار بعدم الترقية مع وعد أكيد من رئيس الجامعة ومن رجال دار العلوم أن ترقى المرة القادمة. - وما الضامن ألا يحدث مثل ما حدث الآن؟ - كلمة شرف. - كلمة شرف؟! أنا لا أثق في أي منهم. - يوقع رئيس الجامعة على قرار ترقية بتاريخ قادم، يكون ضمانه أن أضعه في جيبي. - وما الاختيار الثالث؟
ازدادت علامات الصرامة مشفوعة بالأسى والإحساس بالخطر على وجه الدكتور «حسن حنفي»، وقال: الرفض والمقاومة وترك الموضوع للرأي العام يكتب ما يشاء، لكن عليك أن تكون مدركا للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدث. •••
تم حجز الموضوع في الأدراج حتى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة يوم الخميس الثامن عشر من مارس ثلاثة وتسعين، بسبب استيلاء الحكومة السودانية على فرع جامعة القاهرة بالخرطوم بمعداته، وطرد الأساتذة والعاملين، ووضع موضوع ترقية «نصر أبو زيد» تحت بند ما يستجد من أعمال، وتم عرض موضوعات مشابهة من حيث الشكل، وتم التنبيه على أن مسألة مخالفة قرارات اللجان العلمية أصبحت ظاهرة في قرارات الجامعة، ويجب عدم إهدار تقارير اللجان العلمية. وعرض موضوع «أبو زيد» وأعضاء المجلس منهكون، وقد غادر الكثير منهم الاجتماع لانتهاء الموضوع الأساسي، فينتبه أحد العمداء ويقول: إن هذا الموضوع ليس كالموضوعات السابقة، وعلينا أن نتريث للاطلاع على الأوراق، لكن الإدارة تذكر بالقاعدة التي وضعتها منذ دقائق، وتتم الموافقة على تقرير «عبد الصبور شاهين» بعدم الترقية، فقرر د. «نصر» رفع قضية على الجامعة أمام القضاء الإداري في نفس اليوم. •••
يوم الإثنين الثاني والعشرين من مارس، التقاني عميد كلية الآداب د. «حسنين ربيع»، ووكيلاه «د. حمدي إبراهيم، ود. محمود فهمي حجازي»، لإقناعي ببساطة الأمر، وأنه يجب أن أجهز أوراقي للتقدم للترقية مرة ثانية خلال أشهر قليلة، فلا أحتاج للانتظار عاما، لتأخر اللجنة ستة أشهر في تقديم تقريرها، وأخبرني بأسف رئيس الجامعة حرصه على أن يتابع بنفسه مسألة حصولي على الترقية في الدورة الثانية، حتى أستاذي د. «شوقي ضيف» مقرر اللجنة، حينما تقابلنا قال: لماذا لا تتقدم للترقية مرة أخرى يا دكتور «نصر»؟ ابتسمت وقلت: «إن شاء الله.»
Unknown page