فضحكت علية. ثم نهض وودعته أخته، وانصرف إلى قصره، وكان الليل قد انتصف، فأوى إبراهيم إلى مخدعه في سلام.
في ليالي القمر
كانت الليلة التالية ليلة وضاءة صافية من ليالي القمر، وما أدراك ما هذه الليالي الضاحكة القمراء في بغداد عروس المشرق في ذلك الحين؛ فقد كان الناس يخرجون فيها للتزاور وشهود مجالس الأنس والطرب والشراب إلى وقت أخير من الليل، فيأخذون من اللهو ومتاع الدنيا ما شاءت لهم الحياة الرغدة الباسمة التي زخرت بأنواع اللذائذ والسرور على شواطئ الرافدين.
وكان إبراهيم بن المهدي قد اعتاد أن يخرج في هذه الليالي زائرا لبعض آله، أو مؤانسا لأحد أصدقائه، أو مناظرا لخصومه في أغانيه وألحانه. وقد مضى حين من الزمان لم تعكر الأحداث صفو بغداد وما يظلها من سعادة وهناءة عدا مقتل «الأمين»
9
فقد هز هذا الحادث جوانب المدينة، بل جوانب العراق، هزا أليما. وكادت تحدث من أجله فتنة لولا ما كان عليه المأمون من قوة وعزم، وما له من سلطان بين العرب والعجم، فعادت إلى بغداد حياتها الناعمة وحظها السعيد.
وخرج «إبراهيم» في المساء إلى بيت صديقه مخارق المغني في زي العامة من العرب، وقد خلع ملابس الأمراء، فمر في طريقه بدار رشيقة متقنة البناء ينم ظرفها وجمال مرآها على أنها لثري كبير من الأثرياء. وكان هذا الثري يدعى «أبا عبد الله» وهو من كبار تجار العراق الذين امتدت تجارتهم إلى الهند وفارس واليمن وبلاد الأحباش، وقد دعا نخبة من أصدقائه التجار بعد أوبة من أسفاره ليحيي معهم ليلة ساهرة عامرة بالغناء والموسيقى والشراب ورقص الجواري الحسان، وكانت أمثال هذه الليلة تفتن عشاق الطرب من الأمراء والأعيان وأهل الفنون يغشونها سواء أكانوا من المدعوين أم من الهواة المتلذذين. فنظر «إبراهيم» إلى الدار فإذا كف ومعصم لحسناء قد خرجا من إحدى نوافذها، ثم إذا وجه فاتن كأنما هو وجه القمر يطل من هذه النافذة ثم يختفي كالبرق. فاستهواه ما رأى واستثار فؤاده، وهو الشاب الأديب الفنان المملوء حياة وشبابا، وشعورا رقيقا مرهفا، فوقف واجما مفكرا فيمن عسى أن تكون هذه الجارية الفاتنة، وفيما عسى أن يكون في هذه الدار من الأنس والمتاع، ثم إذا بتاجرين من المدعوين قد أقبلا، وسلما عليه، فسلم عليهما، ودخلا الدار، فدخل هو بينهما، وهما يظنانه من أصدقاء صاحب الدار؛ فلم يكن لهما عهد برؤية إبراهيم بن المهدي ومعرفته عن كثب، وكذلك كان أبو عبد الله، فإنه لم يعرفه، ورحب به عند قدومه عليه وظن أنه صديق صاحبيه أتى معهما تفضلا ورغبة منه في المؤانسة والمجالسة، وسماع الغناء مع سائر الأهل والأصحاب.
وجلس إبراهيم معهم متنكرا، وانتهى الطعام وأقبلت جارية حسناء تدعى «خالدة» كانت صاحبة الوجه الفاتن والكف والمعصم، جمعت بين القمر نورا والغصن لينا، وهي كما قال بشار:
بنت عشر وثمان قسمت
بين غصن وكثيب وقمر
Unknown page