وبينما الناس في لهو وطرب يغنون ويزمرون ويطلقون السهام فتشق عنان السماء، علت الجلبة والضوضاء وهجم القوم بعضهم على بعض حتى اختلط الحابل بالنابل؛ فإن شابا كان يطلق سهما فأصاب فتى من أولاد الأمراء في رأسه فوقع صريعا، وظن أبوه أن السهم أرداه، فاستل سيفه وضرب الشاب به فانتصر له رفاقه وهجموا على الأمير، وهجم أعوانه عليهم، وعلا الصياح حتى اختلط الجمع كله اختلاطا، وخرج العريس ومن معه، وخرج النساء أيضا وتركن العروس في حجلتها، وكان الظلام حالكا خارج البيت إلا حيث توقد المشاعل، فتركها الرجال الموكلون بها واختلطوا بالغوغاء، ومضت ساعتان من الزمان، وذلك الجمع كالبحر الزاخر، ثم خمد الهيجان رويدا رويدا، فانجلى عن كثيرين من الجرحى والعريس في جملتهم، فإنه أصيب بعصى شدخت رأسه فعادوا به إلى داخل الدار، ولكنهم فتشوا عن العروس فلم يجدوها، وتناقل النساء هذا الخبر وبلغ الرجال فجعلوا يفتشون في جوانب البيت وغرفه، وعادت الضوضاء ومضت ساعتان في التفتيش على غير جدوى.
وتضاربت الأقوال حينئذ فمن قائل: إن الجن خطفت العروس بحلاها. ومن قائل: إن أميرا آخر يحبها وتحبه، ولكن أباها أبى تزويجها منه فأرسل أتباعه اختطفوها، وهم الذين صوبوا السهم إلى ذلك الفتى لكي يقلقوا الجمع فيلهوا عنهم. ومن قائل: إنها كانت تريد أن تترهب ولكن أباها منعها من ذلك وأبى إلا تزويجها، فبعث الراهبات من اختطفها. لكن الأكثرين كذبوا هذا القول الأخير إجلالا للراهبات عن هذا الفعل المنكر، وكيفما كانت الحال فإن التفتيش استمر إلى الصباح ولم توجد العروس، ولا وجد أثر لها، وقام في نفوس الأكثرين أن الجن اختطفوها. •••
وجلست الأميرة هند مع ابنتها تلك الليلة وقالت لها: لا أدري لماذا أشعر بضيق في صدري على فراق صفا، مع أن حماتها تحبها كما تحب الأم ابنتها، وقاسم من نخبة الشبان، نعم إنه لا يقاس بأحمد، ولكنه أفضل من كل أولاد عمه، هل رأيت أحمد بين الحضور هو والأمير الإنكليزي؟ يظهر لي أن أحمد تغير كثيرا في هذين الشهرين فصار قليل الكلام كثير التفكير.
فقالت الأميرة سلمى: ألم تسمعي ما قال أبي؟ إنهم يطبخون لنا طبخة ويدبرون مهلكا!
فقالت أمها: إن أحمد أعقل من أن يغتر بنفسه، فإن بلاد كسروان كلها قائمة قاعدة، وفرنسا معنا، والإنكليز لا يساعدونهم ولو تظاهروا بمساعدتهم، إن كل أحد يقول الآن إن هذا الأمير الإنكليزي جاء مع أحمد؛ لأنه حليف له، مع أنه جاء لكي يشاهد العرس والميدان لا غير، كما قال لي أحمد نفسه، وقد أوصيت أخويك أن لا يفارقاهما خوفا من أمر يحدث، إن أحمد من أعقل الشبان وهو يحبك جدا، وقد قال لي بالأمس إنك ما عدت تلتفتين إليه.
فصمتت الأميرة سلمى ولم تقل شيئا، وانتهى الحديث على هذه الصورة، ولكن لما خلعت ثيابها لتنام فكرت طويلا في أمر يشغل بالها، وذرفت دمعتين سخينتين ثم ألقت رأسها على وسادتها، وسلمت نفسها لسلطان الكرى وهي لا تعلم شيئا مما جرى لابنة عمها. •••
وعاد السر هنري إلى بيروت تلك الليلة، وجلس بعد العشاء يكتب لأمه، فوصف لها ما رآه في يومه، وصف الميدان ولعب الجريد وتهادي الجياد العربية بما عليها من الحلى، وملابس الأمراء المقصبة، وأشار إلى الفتى الذي فقئت عينه، وعجب من رضوخ الناس للذل واعتقادهم القضاء والقدر، ثم وصف ما رآه في بيت العروس وأسهب في وصف المآكل وجلوس الأمراء حول السماط على المساند، وانتقل إلى وصف الأميرات وملابسهن وحلاهن، وكان قد رأى الأميرة سلمى واقفة إلى جانب ابنة عمها الأميرة صفا كأنهما بدران أو لؤلؤتان، فلما شرع في وصفهما ارتجف القلم في يده وأرتج عليه، فكتب يقول: أخاف أن أصف لك جمال هاتين الأميرتين، فتطلع إفلين على كتابي وتقول إني نسيتها حتى صرت أرى غيرها جميلا مثلها، الجمال الشرقي غير الجمال الغربي، الجمال الشرقي مسلح والجمال الغربي أعزل، تنظر الفتاة الشرقية إليك بعينيها، فتشعرين كأنها راشت سهامها ورشقتك بها، أما الفتاة الغربية فترين في زرقة عينيها كأسا سائغة تودين ارتشافها، ثم قال: لم أهتد حتى الآن إلى المغارة، ولكن بلغني اليوم أنهم عثروا على مغارة قرب الشويفات فيها أسلحة قديمة، وسأمضي إلى هناك في هذين اليومين، إذا وجدت رفات جدي والوثيقة، فسأسمي نفسي أمير لبنان، وآتي بإفلين إلى هنا فتكون أميرة لبنان، هذه أحلام أهدس بها أحيانا، ولكن قلبي يحدثني أن إفلين نسيتني؛ أنساها إياي اللورد كارو الذي كتبت لي عنه، أخبريني عن كل ما قاله لها بالتفصيل، وعن مقام هذا اللورد بين قومه، فإنني لا أعرفه.
ثم ذكر لها أمورا أخرى عن أحوال الجبل وثورة الأفكار فيه، وختم الكتاب وهو يود الرجوع إلى وصف الأميرة سلمى وقلمه لا يطاوعه، كأنه يرى حرما حظر عليه الدنو منه.
الفصل العاشر
المجمع البطريركي
Unknown page