149

Amin Rihani

أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب

Genres

على أن مظاهر الجوع ازدادت نوعا وشدة؛ فتحت فمي فإذا به كالقطن جفافا، بلعت ما تحلب من رضابي إذ مررت بركوة القهوة، فإذا به أمر من الحنظل، نظرت إلى لساني، فإذا به أبيض كالحليب، لمسته بإصبعي، فإذا به كعباءة الراهب خشونة، أما أذناي فازدادتا طنينا، وأحسست أن رأسي جسم غريب ركب مؤقتا بين كتفي، نزلت الدرج وعدت إلى غرفتي، فألمت بي نوبة من الارتعاش شديدة أقعدتني بضع دقائق وأنا أرتجف حتى أطرافي، وكنت أثناء ذلك أحس بموجات حارة تتماوج في داخلي، وبالأخص في جوار المعدة .

فقلت في نفسي: قد عضك الجوع يا رجل، قد دنوت من إخوانك في الوطن.

نعم، بدأت في اليوم الثاني أشعر بالجوع وأتألم من شعوري؛ فهذا الضعف في رجلي - وبالأخص في مفاصلي وركبتي - إن هو إلا احتجاج المعدة على صاحبها، بل على باريها، بل على من في أيديهم خزائن الأرض المسئولين عن توزيع خيرات الدنيا على عباد الله.

مررت بركوة القهوة ثانية، فوقفت أمامها راغبا مترددا، ثم امتنعت لأني آليت على نفسي أن أصوم يومين كاملين، وفي البيت المقيم فيه أناس في الدور الأسفل يطبخون طعامهم، فتتصاعد أحيانا روائح المطبوخات فتسطع في منزلي وتزعجني جدا، ولكن اليوم يوم الصوم والجوع، فإن امرأ يقتر شواء يتصاعد صوت نشيشه من فوق النار إلى منزلي لأحب عندي من مطرب أو مطربة، وإن روائح الشواء والأبازير في أنفي لألذ من روائح المسك والبخور.

ولت ساعة الفطور وولى معها مضض الجوع ولا غرو؛ فإن للعادة حتى في الأكل - كما قلت - تأثيرا شديدا فينا؛ إذ ما السبب يا ترى في رغبتي بالطعام في ساعات اعتدنا أن نتناوله فيها، وفي نسيانه، بل الرغبة عنه، في الفترات بينها؟

أما الفكر مني ففي اليوم الأول من صومي كأن لم يزل رائقا صافيا، ولكنه في اليوم الثاني أصبح خاسئا حسيرا.

ومن غريب أمر الصوم أيضا أن الذي يصوم يومين يستطيع أن يصوم خمسة، بل عشرة أيام وصالا؛ فأنا في مساء اليوم الثاني لم أشعر بشهوة إلى الأكل شديدة كمساء اليوم الأول، وقد قرأت أخبار أناس صاموا أسبوعين وثلاثة دون أن يتعطل فيهم عضو من أعضائهم الحيوية كالكبد أو الكليتين أو الرئة أو القلب.

ومعلوم أن الأقدمين كانوا يكثرون من الصوم والتنحس، وقد قال ابن خلدون: «وقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا.»

على أنه لا ينكر أن الصوم أياما وصالا يفقد المرء قواه الجسدية والعقلية؛ فإن العضلات والأعصاب لتتقلص وتذوب من الاقتيات مما كونت منه، وإن العقل ليخسأ ويمرض من تشرب دم لا غذاء فيه؛ أي إن الصائم طويلا ، الطاوي أياما، يعيش على لحمه ودمه، يأكل بالحقيقة نفسه. نعم إخواني، إن الجائع يعيش على لحمه ودمه، والجائع كرها يقاسي من مضض الذل - ذل الحاجة وذل الطلب - ما هو أشد من مضض الجوع.

كتبت مرة نبذة أنتقد فيها بعض التعابير العربية التي نرددها نحن الكتاب وقلما نتحقق تمام معناها، من جملتها قولنا: «الجوع المدقع»، فاستغربت إذ عدت إلى القاموس النعت، وقلت أن لا أحد يجوع جوعا يلصقه بالدقعاء - أي التراب - فمهما اشتدت سورة الجوع لا تبلغ درجة يصح أن ننعتها بالدقوع.

Unknown page