ولست أدري كم لبثت في مجلسي، وإذا بيد قوية قد ألقيت فوق يدي، فتطلعت بوجهي فأبصرت وجها وسيما تطل منه عينان زرقاوان تنظران إلى وجهي نظرة مستطيلة مفعمة حنانا وتأثرا.
قال صاحب ذلك الوجه بصوت ملتهف خفيض: ماذا بك يا سيدتي؟ فأثر في نفسي حنان صوته، فوجدتني أقول وأنا خائرة النفس معذبة: إنني وحيدة. قال: وحيدة! ... وخطف على وجهه نور رحمة وشهاب حنان غريب.
فقال: يا لك من مسكينة! ألا صديق؟
فهززت رأسي هزة النفي ولم أتكلم.
فسكت لحظة ثم ابتسم قائلا: هل لك في ركبة معي فوق الأحصنة؟ فخفق فؤادي ونهضت واثبة وقد عاودني الأمل.
ولما رجع بالتذكرتين لمحت على وجهه لهفة كأنها رجاء الفتى وضراعة أهل الشباب، وركبنا مرتين ثم استعدنا الركوب مرات، ونحن ضاحكان مسروران. وفيما كان يعينني على النزول لمس كتفي كتفه واستندت ذراعي إلى ذراعه، فإذا موجة من كهرباء قد سرت في مفاصلي فهزتني هزا.
وكان ذلك إحساسا جديدا لم أشعر من قبل بمثله.
وجلسنا فوق الرمال، وأكلنا شيئا من الحلوى، وكسبت في النصيب سلة من سلال البقل والخضر، فما عتمت هذه السلة أن أعادت إلى خاطري ذكر أحلامي الماضية ولهفاتي على عيش الزواج وحياة ربة الأسرة، ورأيت الحاضر، نعم هذا الحاضر الهنيء الرغيد ذاويا متلاشيا في المستقبل الأليم، حفت جوانبه الوحشة، وقام على حفافيه عذاب.
وتناول هو السلة فعلقها بذراعه باسما وبذراعه الأخرى أمسك بذراعي، فقال: لنترك هذه ونذهب نركب إلى طوفة طيبة فذلك نعيم كدنا ننساه.
قلت: أوثر أن نجلس جلستنا هذه لنشنف أسماعنا بصوت الموسيقى إذا لم تر من ذلك بأسا، فسرت في تضاعيف صوته أنغام حنان ورنة لهف غريب، وهو يقول: أمتعبة أنت؟ قلت: كلا، ولكني أرى أن نختم يومنا على الأغاريد، فذلك أبدع ما يختتم به يوم كهذا ...
Unknown page