Almaniya Naziyya
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Genres
في إثارة المقاومة الفعالة في وجه السادة النازيين في أرجاء القارة. وواضح أن استخدام هذه الإذاعة كان من أمضى أسلحة الدعاوة المضادة أو الدعاية الخفية التي كانت ترمي إلى تقويض أركان النظام الجديد في أوروبا النازية؛ ولذلك، وقع النازيون عقوبات صارمة على كل متهم بالاستماع إلى الإذاعة البريطانية خصوصا، وتنوعت هذه العقوبات، من الحبس الانفرادي أو الإرسال إلى معسكرات الاعتقال، إلى السجن عدة سنوات أو الإعدام (وذلك على وجه الخصوص في كل من بولندة والنرويج، ثم في ألمانيا ذاتها)، إذا ثبت أن المستمع للإذاعة البريطانية يمتلك جهاز الراديو، ويدعو إخوانه ومواطنيه إلى منزله أو أي مكان آخر للاستماع معه؛ إذ إن النازيين كانوا يعتبرونه في هذه الحالة مروجا لدعاوة العدو ضد سلطات الاحتلال. وقد عنيت حكومات الأمم المتحدة المحاربة (في خارج أوروبا النازية) بإعداد قوائم طويلة بأسماء سيئي الحظ الذين ارتكبوا «جريمة» الإصغاء إلى محطات الإذاعة الأجنبية، وخصوصا محطة
B. B. C.
وصدرت ضدهم أحكام بالسجن أو الإعدام، واشتملت هذه القوائم أيضا على تواريخ صدور هذه الأحكام ذاتها بكل دقة. ولم يكن من العسير على الحكومات إعداد مثل هذه القوائم الكاملة؛ لأن الصحف النازية نفسها في البلدان المحتلة درجت على نشر أخبار هذه الأحكام بين الأنباء المحلية، على أمل أن يكون هذا النشر زاجرا للأهلين، يمنعهم من الاستماع للإذاعات الأجنبية، بيد أن صرامة هذه الأحكام لم تفد شيئا في ردعهم؛ لأن هؤلاء ما كانوا يجدون طريقا يعرفون به شيئا مما يحدث في بلادهم أو يجري في أوروبا النازية وفي العالم عموما غير الاستماع لأنباء محطات الإذاعة الحرة، وعلى وجه الخصوص المحطة البريطانية. وعلى ذلك فإنه بدلا من أن يفلح الألمان في إقناع سواد الشعوب المقهورة بالانصراف عن الإذاعة اللندنية، زاد إقبال الأهلين على هذه الإذاعة وصاروا يحكمون الأساليب التي تمكنهم من مراوغة الجستابو والإفلات من أيديهم.
وانتشرت في أرجاء أوروبا المحتلة أقاصيص عن وقائع كثيرة تبين في الحقيقة مدى فشل سلطات الاحتلال الألماني في مقاومة الإذاعة البريطانية. من ذلك أن أحد الجنود الألمان سأل ذات يوم في شارع من شوارع مدينة «بروكسل» رجلا من البلجيكيين عن الوقت، فتجاهل الرجل معرفة الألمانية، فسأل الجندي آخر، ولكنه لم يظفر منه بطائل. وعندئذ تقدمت إليه ابنة صغيرة وأظهرت دهشتها كيف لا يعرف هذا الألماني الوقت، مع أن كل إنسان يعرف أن الساعة هي السابعة والربع مساء. فدهش الألماني بدوره، وسألها كيف استطاعت هي أن تحدد الوقت بهذه السهولة دون أن تنظر إلى ساعة ما؟ فقالت: «الأمر يسير هل ترى أحدا من الناس في الشارع؟» فأجاب الألماني بالنفي، فقالت: «حسنا كل الشوارع تكون مقفرة الآن؛ لأن الناس يهرعون في هذه اللحظة إلى بيوتهم حتى يستمعوا للإذاعة الحرة، وهذه موعدها كل مساء الساعة السابعة والربع تماما!»
وحدث أن كتب أحد المتحمسين من أنصار التعاون مع ألمانيا في بلجيكا إلى جريدة «نوفو جورنال» البلجيكية، يشكو من أنه سمع في الترام حديثا بين تلميذتين: قالت إحداهما في أثنائه: «إن مدرس الإنجليزية في مدرستنا رجل عظيم حقا ! هل تدرين ماذا يفعل؟ إنه يبدي كل يوم تعليقات منوعة على الأنباء المذاعة من إنجلترا، إن النصر آت لا محالة!»
ومن الأقاصيص الطريفة ما حدث في بروكسل أيضا عندما غادر رجل مسن أحد المقاهي، فسأله رفاقه: «إلى أين؟» فقال: «إلى المنزل لأن هذا وقت الاستماع إلى الإذاعة البريطانية!» ثم ذهب الرجل إلى حال سبيله، ولكنه لم يكد يستقر به المقام في بيته حتى سمع طارقا، ثم لم يلبث أن دهش عندما وجد الجستابو في ردهة البيت يسألونه: «هل أنت الرجل الذي يستمع إلى الإذاعة البريطانية؟» فأجاب: «نعم، وأفعل ذلك كل يوم!» فسألوه: «وأين هذا الراديو؟» فأجاب: «ولكني لا أملك جهازا للاستماع، وإنما جدران المنزل رقيقة لدرجة تمكنني من الاستماع لإذاعة جهاز الراديو الذي يملكه جاري، وحضرته ضابط ألماني.»
الفصل الخامس
الصحف السرية
أما أخطر وسائل الدعاية الخفية وأشدها أثرا فكانت الصحف السرية التي انتشرت في أرجاء أوروبا النازية. وظهور هذه الصحف كان معناه في الحقيقة وجود حركة مقاومة خفية واسعة يصعب على سلطات الاحتلال الألماني ورجال الجستابو إخمادها، على الرغم من أن النازيين كانوا أصحاب السطوة في البلدان المفتوحة. ويعتبر ظهور هذه الصحف السرية، ورواجها برهانا ساطعا على أن الهتلريين قد فشلوا تماما، أولا: في كسب صداقة الشعوب المقهورة، واستمالتهم إلى التعاون معهم في ظل النظام الجديد من أجل دعم السيطرة الألمانية، وثانيا: على أنهم بالرغم من تنظيماتهم الواسعة ظلوا عاجزين عن كبح جماح الأهلين والقضاء على الروح المعنوية في البلدان التي دانت لسلطانهم. وزيادة على ذلك فقد قامت الصحف السرية بدور خطير في جمع وتوحيد الصفوف وشد أزر المقاومة ضد السادة الألمان، وهذا بفضل ما كانت تنشره من أنباء وموضوعات متعلقة بنشاط الديموقراطيات العظيمة ونضالها المميت من أجل خلاص الحضارة من شرور النازيين وطغيانهم من جهة، ثم بفضل ما كانت تقوم به من وسائل الدعاوة المضادة التي مر ذكرها. ويكفي برهانا على خطر المهمة التي ألقيت على عاتق هذه الصحف السرية، أنها كانت تعتمد في الأنباء التي تنشرها على إذاعات المحطة البريطانية
B. B. C. ، ومعنى هذا أن الصحف السرية تروج الأنباء التي يفرض النازيون عقوبات صارمة بلغت حد الإعدام في أحايين كثيرة على كل مستمع لهذه الإذاعة، مما يدل أيضا على أن جميع الجهود التي بذلها النازيون لمقاومة هذه الإذاعة الحرة قد ذهبت سدى ومن غير طائل.
Unknown page