Almaniya Naziyya
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Genres
وفي أواخر عام 1943 كانت هذه المقاومة لا تزال على أشدها، فالمصانع تنقطع عن العمل، ويضرب عمالها لأتفه الأسباب، وتكثر حوادث النسف والتدمير بدون توقف في جميع أنحاء البلاد، من ذلك نسف قطار حرب ألماني كان ينقل قوات ألمانية إلى الدانمرك لتعزيز الحامية النازية فيها. وإزاء هذه المقاومة الخطيرة، اضطر الألمان على ما يبدو، إلى تعديل خطتهم بعض الشيء، فبعث الهر هتلر في أواخر نوفمبر رسالة إلى الملك كرستيان، الذي كان لا يزال حتى هذا الحين في شبه اعتقال رسمي ، يقول فيها إنه يقدر موقف الملك ويدرك الصعوبات التي تكتنفه من كل جانب، وأنه لهذا يتوق إلى مقابلته للبحث عن الوسائل التي تكفل علاج هذه المشاكل من الجانبين، «لا سيما أن الدانمرك أصبحت في مفترق الطرق، ويجب أن تساهم بنصيب كامل في جهود المحور الحربية»، وهذا الغرض الأخير كان يستحيل على الملك قبول تحقيقه؛ لذلك رفض «كرستيان» هذه المقابلة واعتذر عن ذلك بأنه لا يزال مقيد الحرية ولا يستطيع فعل شيء ما دام محروما من الحرية الكاملة في العمل، وما لم يرد وزراؤه المعزولون إلى مناصبهم: هذا إلى أن حالته الصحيحة لا تمكنه من تجشم مشاق الأسفار. ولما كان يعرف أن هناك ما يشغل الفوهرر في الوقت الحاضر، فقد أمل أن تتاح لهما فرصة أخرى للاجتماع في وقت قريب! وهكذا جاء رد الملك كرستيان مثلا في الحقيقة من أمثلة حركة «إعطاء الكتف البارد» للضيوف النازيين، التي يتقنها الملك الدانمركي الإتقان كله.
وكذلك أتقن الهولنديون أساليب المقاومة السلبية، وبذل النازيون من مدة جهودا جبارة لإقناع سواد الشعب الهولندي بأن الألمان يلقون إقبالا على معاشرتهم والتعاون معهم من جانب شطر كبير من أهل البلاد، وحتى يقيموا الدليل على صحة دعواهم أكثروا من نشر الصور الشمسية المزيفة، فمنها ما أظهر جماعة من الضباط الألمان يجلسون في أحد الأندية إلى جانب شابات هولنديات، أو بعض الجنود الألمان يتحدثون مع الأطفال ويلاعبونهم وهكذا، كما نشروا صورا جميلة «مزيفة أيضا» لهتلر الطفل، ترسمه كملاك طاهر؛ وذلك حتى يجتذبوا قلوب الهولنديين إلى محبة زعيمهم، ولكن الإخفاق التام كان نصيب هذه المحاولات المزرية جميعا.
بل على العكس من ذلك، لم يلبث الهولنديون بدورهم أن عمدوا إلى أعمال التخريب والتدمير واتخاذ جميع الوسائل التي تؤدي إلى تعطيل الإنتاج وإثارة القلاقل والاضطراب في أنحاء البلاد. وتتضح خطورة الحالة في هولندة وما بلغت إليه من التوتر أن رئيس الجستابو في هذه البلاد اضطر إلى إصدار عدة أوامر «في أواخر يولية 1943» جاء في أحدها «أن على قوات البوليس العسكري والمدني إطلاق النار في الحال وبلا إنذار على كل تجمهر يشاهد في الميادين العامة أو الشوارع يشترك فيه أكثر من خمسة أشخاص»، أضف إلى هذا إعلان الأحكام العرفية في جميع البلاد الهولندية على أيدي «سايس إينكارت» حامي هولندة النازي ... وقد جاء في مرسوم هذه الأحكام ما نصه:
يحاكم أمام المجلس العسكري ويحكم عليه بالإعدام كل شخص يشترك في الاجتماعات العامة مهما يكن نوعها، وكل من يرفض أن يقوم بالعمل المكلف به ولو كان رفضه سلبيا، وكل من يشترك في الاعتصاب أو يضرب عن العمل، وكل من يحمل سلاحا أو يكون السلاح في حوزته، وكل من يتمرد أو يثور ضد السلطات العامة، وكل من يكتب أو ينشر أو يوزع منشورات من شأنها إثارة الخواطر أو تعكير صفو النظام العام.
ولهذه الفقرة الأخيرة أهمية خاصة؛ لأنها تشير إلى وجود وذيوع ما يعرف في أوروبا النازية باسم «الصحف السرية»، وهذا إلى أنها تتضمن اعترافا واضحا بخطر الدور الخفي الذي كانت تلعبه هذه الصحافة الحرة في تقويض أركان النظام الجديد لا في هولندة وحدها، بل وفي أوروبا الهتلرية جميعها. •••
وقد انتشرت المقاومة السلبية في البلدان المحتلة في أوروبا النازية حتى إن الأطفال وصغار السن لم تكن حماستهم تقل عن حماسة البالغين وكبار السن في إظهار كراهيتهم للألمان، وإصرارهم على عدم التعاون معهم، من ذلك أن جريدة «لوبايي رييل
Le Pays Réel » البلجيكية، وهي صحيفة «لبون ديجريل
Dégrelles » من كبار أنصار النازي في بلجيكا، شكت ذات يوم من أن «المدارس تحرض الأطفال على الثورة»، ثم ذكر المحرر لإثبات ذلك: «أنه صادف تلميذتين صغيرتين تنشدان في الترام أنشودة وطنية تنتهي بما معناه أن بريطانيا العظمى سوف تكسب الحرب لا محالة، فلما سألهما أين تعلمتا هذه الأنشودة أجابتاه: «في المدرسة».» ولم يلبث البلجيكيون أن أخذوا يحتلون مكانا ظاهرا بين الشعوب المقهورة التي أتقنت أساليب المقاومة السلبية ضد النازي. ومما لا شك فيه أن هذه المقاومة كانت تستمد قوتها من «الصحف السرية» المتعددة التي ما فتئت تعمل على نقل أخبار العالم الخارجية إلى البلجيكيين في صورتها الصحيحة، وتحض أهل البلاد على عدم التعاون مع الألمان وتحيي في نفوسهم الأمل في قرب ساعة الخلاص، وتشجعهم على التآزر في سبيل إلحاق الأذى بآلة الحرب الألمانية.
ومع أنه كانت هناك فئة من البلجيكيين الضالعين مع الألمان إلا أنها كانت أقلية لا تذكر، وقد أصبحت موضع الكراهية والازدراء في البلاد، كما أن العمال والمهندسين البلجيكيين الذين سخرهم الغزاة لإنتاج ما يحتاجون إليه لم يكونوا يزيدون على عشر السكان، ومع هذا فقد اتحدت كلمتهم على تعويق الإنتاج بكل ما في طاقتهم من حيلة أو جهد. أضف إلى ذلك أن ملك البلجيكيين «ليوبولد» قد لزم العزلة منذ مدة طويلة في قصره في «لاكن» على بعد عشرة كيلومترات من بروكسل، لا يقابل أحدا من الغزاة، ويأبى التعاون معهم؛ ولذلك تركه الألمان في مقره مقيد الحرية، غير عابئين به، كما قالوا «ما دام لا يستطيع شيئا في سجنه الحالي». •••
وكان من أهم أنواع المقاومة السلبية تدبير المظاهرات في البلدان المحتلة احتجاجا على أساليب النازي الحكومية، ولإقامة البرهان على أن هذه الشعوب المغلوبة ترفض التعاون مع النازيين إطلاقا. وفي أغلب الأحيان كان الطلبة يتزعمون هذه المظاهرات، كما حدث في «مظاهرات الجامعات الهولندية» في عام 1940، في جامعتي «دلفت
Unknown page