وقد كان إمام اللاهوتيين بين فلاسفة الرواقيين؛ لأنه أول من أسهب في إقامة الأدلة على وجود الله، ومن براهينه اللاهوتية أن اختلاف المزايا والطبائع يستدعي تمييز بعضها على بعض، وأن يكون بعضها أفضل من الجميع، فالحصان مثلا أفضل من السلحفاة، والثور أفضل من الحمار، والأسد أفضل من الثور، وليس على الأرض ما هو أفضل من الإنسان، ولكنه مع ذلك لا يرتقي إلى المنزلة الفضلى ولا يسلم من الضعف والشر والحماقة، فليس هو مثال الكمال بين الموجودات، ولا بد أن يكون الموجود الحي الكامل شيئا غير الإنسان، وأن يكون موجودا مستكملا للفضائل منزها عن كل سوء، ومثل هذا الموجود يطابق صفات الإله، فالإله إذن موجود.
ومن أسباب الإيمان بالله عند كليانثس أربعة أسباب يخصها بالتنويه: وهي الوحي الذي يكشف الغيب، وعظمة الخيرات التي تجود بها الأرض والسماء، ورهبة النفس أمام أسرار الوجود وظواهره الرائعة كالبروق والرعود والعواصف والأهوال والأوبئة والصواعق والبراكين، وهذا النظام المحكم الذي يبدو للنظر في حركات الأجرام السماوية ومواعيد الأفلاك والبروج، مما يرفض العقل حدوثه بالمصادفة والاتفاق.
وكانت لهذا الفيلسوف صلوات يخاطب بها الله كأحسن ما تكون الصلاة، ولكنه يذكر الله باسم زيوس كما كان معروفا بين الإغريق. •••
وولد شريسبس
Chrisppus
ثالث هؤلاء الفلاسفة بعد كليانثس بنحو خمسين سنة، وكان مولده في قليقية ومقر تعليمه في أثينا، وهو أوفرهم محصولا وإن لم يحفظ من كتبه غير شذرات.
وقد شغل باللاهوت الرواقي كما شغل به كليانثس، ولا سيما براهين وجود الله وبراهين عدله وحكمته في قضائه.
فمن براهينه على وجود الله أن الكون أكبر من أن يخلق للإنسان وحده، فوجوده عبث إن لم يكن هناك إله أكبر من الإنسان.
ومن تلك البراهين أنه «إذا كان هناك شيء يعجز الإنسان عن صنعه فالذي يصنع ذلك الشيء أعظم من الإنسان، وأن الإنسان يعجز عن خلق الكون فلا بد أن يكون القادر على خلقه أعظم منه، وأي موجود أعظم من الإنسان غير الله؟»
ويرد على من يتخذون الشر دليلا على بطلان العناية الإلهية بأدلة كثيرة يقول منها في كتابه عن العناية «إنه ليس أضل من أولئك الذين يتخيلون أن الخير قابل للوجود بغير وجود الشر معه؛ لأن الخير والشر ضدان يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر، فكيف يتأتى للعدل معنى من المعاني بغير الأخطاء والإساءات؟ وما هو العدل إن لم يكن هو منع الظلم؟ وماذا يفهم إنسان من معنى الشجاعة إلا أنها نقيض الجبن؟ أو من معنى العفة إلا أنها نقيض الشراهة؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هناك حماقة؟ وما بال هؤلاء القوم في حماقتهم يطلبون أن يكون هناك حق ولا يكون هناك باطل؟ وقل مثل ذلك في الخير والشر، والراحة والتعب، والسرور والألم، فإن هذه الأشياء آخذ بعضها برقاب بعض كما قال أفلاطون، فإن نزعت أحدها نزع معه قرينه لا محالة.»
Unknown page