فإذا كان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء، وليس معه خلق كثير ولا قليل، ولا سعيد ولا شقي على الإطلاق، وكان العقل لا يستريح إلى صورة الإله القادر على كل شيء يخلق إلها آخر قادرا على كل شيء مثله، بغير فارق بين الخالق والمخلوق - فماذا بقي للعقل من صورة يستريح إليها بين هذه الصور غير صورة العالم كما عهدناه؟ وكيف يكون خلق محدود ولا يكون لتلك الحدود مظهر من النقص والألم والحرمان؟
إن هذه الصورة لهي أقرب صورة يقبلها العقل مع وجود الله القادر على كل شيء، وليست هي بالصورة التي تناقض وجوده وتعضل على العقل في التخيل أو في التأمل أو في الاعتقاد.
إما إله ولا شيء.
وإما إله خالق وإله مخلوق بغير فارق بين الإلهين.
وإما هذا العالم كما عهدناه، ونحن نجهل عقباه أو لا نملك أن نقيس العقبى السرمدية على ما شهدناه.
ومع اقتراب هذه الصورة من المعقول لم تترك للعقل البشري يبتلعها بغير مسوغ من تجاربه المحدودة في حياته الفكرية أو حياته العاطفية أو حياته الاجتماعية على تعاقب الأجيال.
فقد يفصل بين الطفل وأبيه فارق عشرين سنة أو دون العشرين، وهذا الفارق الصغير هو الذي يسمح للأب في دخيلة قلبه أن يبتسم وهو ينظر إلى دموع ولده الذي يتولاه بالتربية والتأديب، ولا يعلم الأب من نفسه أنه قاس غليظ، ولا الناس يعلمون فيه القسوة والغلظة من أجل هذا التباين في الشعور، ويكبر الابن نفسه فلا يتهم أباه؛ لأنه يبتسم لتلك القسوة المزعومة كما ابتسم أبوه وهو دامع العينين.
فإذا كان هذا ما نسمح به لفارق عشرين سنة، فبماذا نسمح لفارق الآباد والآزال؟ وما أجد بكاء الطفل إلى جانب ذلك البكاء الهازل قياسا على فارق العلم وفارق الزمان؟
وقد يحب الإنسان إنسانا فيلتذ الألم والعذاب في حبه، ويتخذ من ألمه وعذابه غذاء لتلك المتعة النفسية وعلامة على الوفاء والإيثار، ويجوز أضعاف ذلك في شريعة الحب الإلهي إذا جاز ذلك وأمثاله في حب الإنسان للإنسان، فمن حق الوجود الإلهي أن يكون له في قلوب عارفيه حب لا يضارعه حب فان محدود، نهواه لما نتخيله من صفات قلما تصدق في غير الخيال.
ونحن ننظر إلى حيز واحد من التحفة الفنية الخالدة فلا نرى فيها إلا بقعة تقبح في النظر أو قطعة من الحجر والطين، ولا نقيس التحفة الفنية مع ذلك على البقعة الشائهة في الحيز المحدود، ولو طال أجل هذا النوع الإنساني أضعاف مطاله لما كان في تلك البقعة الشائهة غير ذرة هباء، لأنه بقعة ضئيلة في صورة تتناول الدهور التي لا نحصيها والمكان الذي لا نستقصيه، فمن أين لنا أن نقيس جمال الصورة الأبدية على بقعة الحاضر كما تمثلناه؟ وكيف نحصر الآزال والآباد في لمحة من حاضر عابر؟ وكيف نستوعب بالحواس ما تضيق به الحواس بل تضيق به العقول؟
Unknown page