ولا يسع العقل في أمر ظهور الحياة إلا أن يأخذ بأحد قولين! فإما أنها خاصة من خواص المادة ملازمة لها فلا حاجة بها إلى خالق مريد، وإما أنها من صنع خالق مريد يعلم ما أراد.
فإذا كان هذا العالم كله مادة ولا شيء غير المادة، لزم من ذلك أن المادة أزلية أبدية لا أول لها ولا آخر، وأنها موجودة منذ الأزل بكامل قواها وجملة خصائصها، وأن خصائصها ملازمة لها حيث كانت بغير تفرقة بين المادة في هذا المكان من الفضاء، والمادة في غير ذلك المكان.
ولا معنى إذن لظهور الحياة في كوكب دون كوكب، وفي زمان دون زمان، ولا معنى لأن تظل خصائص الحياة بلا عمل ملايين الملايين من السنين، بل فوق ملايين الملايين من حساب السنين، ثم تظهر بعد ذلك في زمان يحسب تاريخه بالآلاف، ولا يقاس إلى الأزل الذي لا يدخل في حساب.
والمسألة هنا مسألة اضطرار لا اختيار فيه، فلو كانت إرادة مريد لجاز تقدير زمن دون زمن وكوكب دون كوكب؛ لأن التقدير طبيعة الاختيار والإرادة، ولكنها خصائص ضرورية لا تملك الاحتجاب من أزل الآزال قبل أن تظهر على الكرة الأرضية أو غيرها من الكواكب في هذا الأمد المحصور من الدهور، فأين كانت خصائص التركيب منذ أزل الآزال؟ ولماذا يكون التركيب محتاجا إلى زمان إذا كان من طبيعة المادة وكانت طبيعة المادة ملازمة لها منذ وجد لها وجود؟ ولماذا يحتاج التركيب إلى هذا المقدار من الزمان بعينه ولا يتم في غير جزء من المادة وفي غير مكان محدود من الفضاء؟ إن المسألة ليست مسألة ألف سنة ولا عشرة آلاف سنة ولا مليون سنة ولا عشرة ملايين ولا ألف مليون ولا ملايين الملايين من السنين، ولكنها مسألة «أبد» لا يحصى من بداية العالم وليست له بداية تقف عندها العقول، فلماذا تأجلت خصائص التوزيع والتركيب في أجزاء الفضاء وآماد الزمان؟ ولماذا جاءت الحياة مصادفة ثم دامت هذه المصادفة بكل ما يلزم لدوامها من تدبير، وليس للمادة الصماء تدبير؟
على العقل أن يبدي أسبابه لترجيح القول بهذه الفروض على القول بظهور الحياة من صنع خالق مريد، ولا نعرف أسبابا لترجيح الفرض العسير على الفرض اليسير.
والفرض اليسير هو الفرض الآخر: وهو أن الحياة قد ظهرت من صنع خالق مريد، وإننا إذا فاتنا أن نعلم مقاصده كلها أو بعضها - فليس في ذلك ما يأباه العقل أو ينفيه؛ لأن الخالق المريد هو الذي يعلم مراده كله، ولا يلزم من ذلك أن يعلمه كل عقل ويحيط به كل عاقل، فنحن لا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة العمياء قد اختارت لظهور الحياة هذا الزمان وهذا المكان، ولا نستطيع أن نقول: إن قوانين المادة في شأن الحياة لا تسري إلا بعد ملايين الملايين من الدهور منذ أزل الآزلين، ولكننا نستطيع أن نقول: إن اختيار الزمان والمكان من فعل مختار مريد، وإنه هو الذي يعلم ما قد اختار وما قد أراد، ولسنا بعد هذا محتاجين إلى التساؤل عن اختيار الزمان والمكان لظهور الحياة؛ لأنه - مع وجود الخالق المريد - لا تكون الحياة الحيوانية أو الحياة الإنسانية هي أول نشأة للحياة الكونية في الزمان كله والمكان كله، وإنما هي ظاهرة من ظواهر الحياة الكونية لا عجب أن يكون لها وقت محدود وحيز محدود.
فإخراج الحياة من المادة الصماء - أو إخراج الحي من الميت - معجزة حقيقة بتوكيد القرآن الكريم وتقريره وتعجيب العقول من خفاء دلالتها على من تخفى عليه؛ فإن المادة قد تنتظم في أفلاك ومدارات وبروج؛ لأن الانتظام حالة من الحالات التي تقع للمادة ولا تضطر العقل إلى افتراض قوة من خارجها، أما أن تنشئ المادة لنفسها أسماعا وأبصارا وأفئدة فليست هذه من حالاتها التي يقبلها العقل بغير تفسير، وكل ما قيل في نفي العجب عن تركيب الجسم الحي - أنه لا عجب فيه؛ لأننا نرى الآلات المادية تعمل بنظام وتوزع العمل فيها لمقصد معلوم، ولكن العجب كل العجب في هذا التشابه بين الآلات والأجسام الحية؛ لأن الآلات لا تنشأ بغير صانع مريد، ولا يغنينا تعليل أعمالها بقوانين الحرارة والحركة عن تجاوز القوانين إلى إرادة المهندس المسخر لهذه القوانين.
وقد كان الناس ينظرون بالعين المجردة إلى أعضاء الجسم الحي فيعجبون وسعهم من العجب لدقتها وتساند أجزائها وتعاون وظائفها وسريان عوامل النمو فيها بمقاديره الضرورية على حسب السن والنوع والفصيلة، سواء في جسم الإنسان أو جسم الحيوان أو جسم الحشرة أو جسم النبات، فأحرى بهم أن يعجبوا أضعاف ذلك العجب بعد أن عرفوا بالمجاهر والتحليلات مم تتألف تلك الأعضاء، وعلى أي نحو تتساند تلك الوظائف، وتبين لهم أن هذه الأعضاء البارزة للعيان مجموعة من ذرات لا ترى الألوف منها بالعين المجردة، وأن كل ذرة منها تقع في موقعها من الجسم وتعاون بقية الذرات فيه كأنها على علم بها وبما تطلبه منها، ولا تضل واحدة منها عن طريق لمرض أو عجز طرأ عليها إلا تكفل سائرها بإصلاح خطئها وتقويم ضلالها.
قال الأستاذ ليثز
Leathes
Unknown page