الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
خفايا إنجيل مرقس
إنجيل مرقس السري
يسوع والنساء
ألغاز ميلاد يسوع
مشكلة بيت لحم والناصرة
هل ولد يسوع في 25 ديسمبر؟
يسوع في الفكر اليهودي
Unknown page
هل كان يسوع متزوجا؟
معمودية يسوع
من هو إله يسوع؟
تعاليم يسوع السرية
مرقيون والكنيسة البديلة
هل وجد يسوع فعلا؟
الإطار التاريخي للإنجيل
لغز إخوة يسوع
مشكلة الرسل الاثني عشر
أين اختفى الرسل؟
Unknown page
شخصية يسوع وطباعه
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
هل تنبأ بموته وقيامته؟
في البدء كان الكلمة
مشكلة إنجيل يوحنا
طقوس الاستسرار
التحقيب الزمني لكرازة يسوع
هل دخل يسوع أورشليم كملك؟
الأيام الستة الأخيرة
هل تناول يسوع عشاء الفصح؟
Unknown page
ليلة القبض على يسوع
محاكمة يسوع
لماذا أدين يسوع؟
إلهي لماذا تركتني؟
لغز القبر الفارغ
لغز قيامة يسوع
نظرية المؤامرة
بولس النبي
أضواء على لاهوت بولس
بيبلوغرافيا
Unknown page
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
خفايا إنجيل مرقس
إنجيل مرقس السري
يسوع والنساء
ألغاز ميلاد يسوع
مشكلة بيت لحم والناصرة
هل ولد يسوع في 25 ديسمبر؟
يسوع في الفكر اليهودي
Unknown page
هل كان يسوع متزوجا؟
معمودية يسوع
من هو إله يسوع؟
تعاليم يسوع السرية
مرقيون والكنيسة البديلة
هل وجد يسوع فعلا؟
الإطار التاريخي للإنجيل
لغز إخوة يسوع
مشكلة الرسل الاثني عشر
أين اختفى الرسل؟
Unknown page
شخصية يسوع وطباعه
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
هل تنبأ بموته وقيامته؟
في البدء كان الكلمة
مشكلة إنجيل يوحنا
طقوس الاستسرار
التحقيب الزمني لكرازة يسوع
هل دخل يسوع أورشليم كملك؟
الأيام الستة الأخيرة
هل تناول يسوع عشاء الفصح؟
Unknown page
ليلة القبض على يسوع
محاكمة يسوع
لماذا أدين يسوع؟
إلهي لماذا تركتني؟
لغز القبر الفارغ
لغز قيامة يسوع
نظرية المؤامرة
بولس النبي
أضواء على لاهوت بولس
بيبلوغرافيا
Unknown page
ألغاز الإنجيل
ألغاز الإنجيل
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
Unknown page
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان »، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
Unknown page
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
Unknown page
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
هنالك سمة تجمع الإنجيل إلى بقية الكتب المقدسة للديانات الكبرى، هي سمة الإشكالية، وهذه الإشكالية تنجم عن عدة عوامل؛ فالكتاب المقدس نص قديم تفصلنا عنه عشرات القرون، وهو نتاج ثقافة منقطعة عنا، وعقلية مغايرة لعقليتنا الحديثة، وطرائق في التعبير لم تكن قد استقلت بعد عن التركة الميثولوجية للعصور القديمة. والكتب المقدسة وصلت إلينا مدونة بلغات قديمة أو حتى بائدة في بعض الأحيان، وهذا يعني أننا نقرأ ترجمات قد لا تكون بدورها نقلا عن نصوص أصلية، ونتعامل مع مفردات لغوية قد لا نكون في كثير من الأحيان متأكدين من مدلولاتها. ويتفرع عن هذه المشكلة اللغوية مشكلة أخرى تتعلق بالأسلوب؛ فمؤلفو هذه النصوص غالبا ما كانوا ينتجونها تحت وطأة حالة من الإلهام النابع من اللاشعور الفردي أو الجمعي، يشعرون معها بالتواصل مع العوالم القدسية، أي أنهم كانوا يبدعون نصا انفعاليا لا نصا عقليا، وبأسلوب الشاعر المليء بالخيالات والصور ، لا بأسلوب الباحث أو الفيلسوف، موجهين خطابهم إلى العاطفة الإنسانية لا إلى التفكير المنطقي؛ فالدين بعد كل شيء حالة انفعالية لا حالة عقلية، والمتدين يستسلم لهذه الحالة الانفعالية أولا، ثم ينتقل إلى عقلنتها بعد ذلك إذا شاء.
إن هالة القداسة التي تحيط بالنص الديني تجعل من المتدين متلقيا سلبيا له، لا ينتبه إلى إشكالياته ولا يحفل بغوامضه. إن ما يطلبه منه هو أن يكون مرشدا أخلاقيا، ودليلا إلى حياة نفسية وعقلية سوية ومتوازنة. وعندما يفلح النص في أداء هذه المهمة (وهذا ما يفعله عادة) تخفت الحاجة إلى عقلنته والتفكر في إشكالياته التي تترك للاختصاصيين الذين ما زالوا في أمرها يختلفون. ولكن العقل الذي يطلب التصديق بعد الإيمان، ينتقل بأصحابه من حالة التلقي السلبي للنص إلى حالة التفاعل الإيجابي معه، ومن غض الطرف عن مشكلاته إلى التفكر فيها، لأن إيمان القلب دون تصديق العقل يبقى إيمانا هشا وناقصا. فالإنسان مزيج متكافئ من قلب ومن عقل، والحياة السوية تتأتى عندما لا يبغي أحدهما على الآخر.
هذا الكتاب موجه إلى طالبي المعرفة البحتة المنزهة عن الغرض، وإلى المؤمنين من أهل العقل لا إلى أهل الحرف والنقل. وإذا كنت قد تعرضت فيه لكل ما وجدته إشكاليا وغامضا في النص الإنجيلي، ومن موقع باحث موضوعي يتعاطف في الوقت نفسه مع حالة الإيمان، إلا أنني لا أدعي القول الفصل فيما قدمت. وعلى حد القول المأثور عن نبي الإسلام: «من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران.» وليس الخطأ في اعتقادي إلا تدريبا على الصواب.
فراس السواح
آذار/مارس 2012م
خفايا إنجيل مرقس
Unknown page
لم يترك يسوع أثرا مكتوبا بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وأعماله كما وصلت إليها عن طريق تلامذته المباشرين ممن رافقوه عبر مسيرته التبشيرية القصيرة. وعندما مات معظم أفراد الجيل الذي عاصر يسوع حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، بدت الحاجة ماسة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه. وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متى ويوحنا. وجميع هذه الأناجيل دونت باليونانية القديمة لغة الثقافة في ذلك العصر.
هنالك إجماع اليوم بين الباحثين في كتاب «العهد الجديد» على أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأنه دون نحو عام 70م، أي بعد وفاة يسوع بنحو أربعين سنة؛ يليه إنجيلا متى ولوقا اللذان دونا بين عام 80 وعام 90م، وأخيرا إنجيل يوحنا الذي دون فيما بين عام 100 و110م.
تدعى الأناجيل الثلاثة الأولى (مرقس ومتى ولوقا) بالأناجيل المتشابهة؛ لأنها تعكس وجهة نظر موحدة تقريبا بخصوص حياة يسوع ورسالته، كما تدعى بالإزائية (
Sinoptics ) لأن القصة تسير فيها عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث تستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها في أعمدة ثلاثة. أما رواية إنجيل يوحنا فتختلف عن هذه الروايات الثلاث سواء في أحداثها أم في المضمون اللاهوتي لهذه الأحداث.
وقد لاحظ الباحثون أن المادة التي قدمها مرقس تشكل قاسما مشتركا بين متى ولوقا عالجاها على هذه الدرجة أو تلك من التفصيل والإطالة. فقد اتضح من دراسة هذه النصوص الثلاثة أن 59٪ من الكلمات التي استخدمها متى في بناء جمله مأخوذة من لغة مرقس. وكذلك الأمر عند لوقا حيث تبلغ النسبة 55٪ فيما يتعلق بالمادة السردية، ولكنها ترتفع إلى 69٪ فيما يتعلق بأقوال يسوع. وعندما يختلف متى عن لوقا فإن الاثنين يختلفان مع بعضهما البعض، ولم يحدث أنهما اتفقا ضد مرقس. كما ويعتقد الباحثون أن متى ولوقا عندما يختلفان مع مرقس فإنهما يعتمدان في ذلك على مرجع آخر مفترض أشاروا إليه بالحرف
Q ، وهو اختصار للكلمة الألمانية
Quella ، التي تعني المصدر. ويبدو أن هذا المرجع كان عبارة عن مجموعة أقوال حكموية منسوبة ليسوع تشبه مجموعة الأقوال الواردة في إنجيل توما المنحول، الذي اكتشف بين وثائق نجع حمادي بمصر العليا عام 1948م، والذي اقتصر على إيراد 114 قولا ليسوع من غير ربطها بمناسباتها أو التطرق إلى مجريات سيرة يسوع.
وقد عمد بعض الباحثين مؤخرا إلى استخلاص مادة هذا المصدر من الأقوال الواردة عند متى ولوقا والتي لم ترد عند مرقس، واعتبروه بمثابة الإنجيل المفقود، الذي كان بين أيدي أتباع يسوع قبل ظهور الأناجيل السردية التي رسمت سيرة حياة يسوع.
1
هذه الأصالة التي تتمتع بها رواية مرقس خلقت ميلا لدى العديد من الباحثين لاعتمادها كمصدر أكثر مصداقية وقربا إلى واقع الحال عندما تختلف الأناجيل فيما بينها. وسوف أركز فيما يلي على الاختلافات في خاتمة الأناجيل الأربعة بعناصرها الثلاثة، وهي: (1) قيامة يسوع. (2) ظهوراته لتلاميذه. (3) صعوده إلى السماء.
Unknown page
لقد صار من المسلم به اليوم أن الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس الذي بين أيدينا، والتي تقص عن ظهورات يسوع بعد القيامة لتلاميذه وارتفاعه بعد ذلك إلى السماء، هي جزء أضافه الناسخون اللاحقون، لأن أقدم نسخة توفرت لنا من هذا الإنجيل لا تتعرض لهذه الأحداث. وقد تم اكتشاف هذه النسخة في دير سانتا كاثرينا بصحراء سيناء في مجلد واحد مع بقية الأناجيل الأربعة نحو عام 1860م، ولكنها لم تنشر إلا بعد ذلك ببضعة عقود. قبل هذا الاكتشاف كان معروفا لدى الخاصة أن أقدم نسخة يحتفظ بها الفاتيكان لإنجيل مرقس تفتقد في خاتمتها أيضا لأحداث الظهورات والصعود، وكان التفسير الشائع لهذه الظاهرة هو ضياع الورقة الأخيرة من النص والتي كانت تحتوي على بقية خاتمة الإنجيل. ولكن اكتشاف نسخة دير سانتا كاثرينا قد دحض هذا التفسير، لأن خاتمتها تنتهي أيضا دون التعرض لهذه الأحداث، وعلى الورقة الأخيرة نفسها باشر الناسخ بتدوين إنجيل لوقا مبتدئا بعبارة «الإنجيل بحسب لوقا». وهذا يعني أننا أمام نسخة كاملة غير منقوصة لإنجيل مرقس في شكله الأقدم والأقرب إلى الأصل.
2
وإليكم نص الخاتمة كما ورد في نسخة سانتا كاثرينا، وهو يتطابق مع نص الخاتمة التي بين أيدينا ولكن من دون الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة: «وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة حنوطا ليأتين ويدهنه. وباكرا جدا في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس، وكن يقلن فيما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيما جدا. ولما دخلن القبر رأين شابا جالسا عن اليمين لابسا حلة بيضاء فاندهشن. فقال لهن لا تندهشن، أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام، ليس هو ها هنا. هو ذا الموضع الذي وضعوه فيه. ولكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعا وهربن من القبر؛ لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن، ولم يقلن شيئا لأحد لأنهن كن خائفات.» (مرقس، 15: 1-8)
إذا قرأنا هذه الخاتمة بعين غير متأثرة بخاتمات الأناجيل الأخرى لخرجنا بالملاحظات التالية: (1)
لم يقل كاتب الإنجيل إن الشاب الذي وجد داخل القبر هو ملاك. وهذا يترك الاحتمال قائما في أن يكون أي شاب يرتدي حلة بيضاء. وربما كان أحد فتيان يوسف الرامي، الرجل الثري الذي كان تابعا سريا ليسوع والذي طالب بجثمانه من الوالي بيلاطس ثم أودعه في قبر فارغ ضمن بستانه القريب من موضع الصلب. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن أعضاء طائفة الأسينيين اليهودية في ذلك الوقت كانوا يرتدون الثياب البيضاء. (2)
كان رد فعل النساء تجاه رؤية الشاب هو الدهشة وليس الخوف، وهذا ما يرجح أنهن لم يرين ملاكا وإنما شابا عاديا. (3)
استخدم الكاتب في تفسير عدم وجود يسوع في القبر تعبير: «لقد قام هو ليس ها هنا»، ولم يتبع ذلك بأي توضيح يتعلق بطبيعة هذه القيامة. (4)
إن فحوى الرسالة التي أراد يسوع من النسوة نقلها لتلاميذه هي أنه سوف «يسبقهم» إلى الجليل وهناك يرونه. وليس في هذا التعبير أي مضمون إعجازي أو إشارة إلى ظهور خارق. (5)
هذه النتائج التي أوصلتنا إليها الدراسة المدققة للخاتمة الأصلية لإنجيل مرقس، أقدم الأناجيل وأقربها إلى الحدث التاريخي، سوف تتدعم بالدراسة الموضوعية لخاتمات الأناجيل الثلاثة الأخرى. فالأخبار عن ظهورات يسوع الخارقة في هذه الأناجيل متباينة، أما صعوده إلى السماء فلا يرد إلا في خاتمة إنجيل لوقا، بينما تخلو خاتمتا متى ويوحنا من أي إشارة إلى هذا الصعود. وحتى في خاتمة لوقا فإن صياغة الكاتب للحادثة تدل على أنه يقر ببند اعتقادي صار مترسخا، أكثر من كونه يصف حادثة موضوعية. ولنبدأ بخاتمة متى وهي الأقصر بين الخاتمات الثلاث. (1) خاتمة متى
عندما قام يوسف الرامي (نسبة إلى مدينة الرامة) بدفن جثمان يسوع مساء يوم الجمعة في قبر جديد كان قد نحته في الصخر ثم دحرج عليه حجرا كبيرا، كانت اثنتان من النسوة اللواتي تبعن يسوع، يدعوهن الكاتب بمريم المجدلية ومريم الأخرى، تراقبان ما يجري. وعندما انصرف يوسف انصرفتا أيضا للاستراحة في يوم السبت. وفي الليل أرسل الوالي بيلاطس حراسا ليضبطوا القبر بناء على التماس من رؤساء الكهنة، لأنهم قالوا لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من بين الأموات: «وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج؛ فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات. فأجاب ملاك الرب وقال للمرأتين: لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، ليس هو ها هنا لأنه قام كما قال. هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعا فيه، واذهبا سريعا وقولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه. فخرجتا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا التلاميذ. وفيما هما منطلقتان لتخبرا التلاميذ إذا يسوع لاقاهما وقال: سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني. وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان ... وأما الأحد عشر تلميذا فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا. فتقدم يسوع وكلمهم قائلا: دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى، 28: 1-20).
Unknown page
نلاحظ من قراءة هذا النص ما يلي: (1)
عندما وصلت المرأتان إلى القبر لم يكن الحجر قد دحرج عن مدخل القبر كما هو الحال في رواية مرقس. (2)
تحول الشاب الذي يرتدي الأبيض ويجلس داخل القبر عند مرقس، إلى ملاك يهبط من السماء بزلزلة عظيمة فيدحرج الحجر ويجلس عليه دون أن يدخل إلى القبر. (3)
يستخدم الكاتب كلمات مرقس نفسها في الخطاب الذي وجهه الملاك للمرأتين بخصوص ذهاب التلاميذ لرؤية يسوع في الجليل. (4)
تختلف رواية متى عن رواية مرقس في عدد وهوية النسوة اللواتي أتين إلى القبر وشهدن الحادثة. فمرقس يتحدث عن ثلاث نسوة، هن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب وسالومة، أما متى فيتحدث عن امرأتين فقط، الأولى مريم المجدلية، والثانية يدعوها بمريم الأخرى دون مزيد من الإيضاح بخصوص هويتها. (5)
يتحدث متى عن ظهورين فقط ليسوع؛ الظهور الأول كان للمرأتين وهما في طريقهما لإبلاغ التلاميذ، والثاني للتلاميذ الأحد عشر في الجليل. (6)
بعد رؤية يسوع في الجليل شك بعض التلاميذ في أنهم يرون المعلم نفسه. وهذا يدل على أن التلاميذ لم يكونوا يتوقعون بعث يسوع ولا هم سمعوا منه أي نبوءة بهذا الخصوص. (7)
والأهم من هذا كله أن متى لم يشر صراحة أو تلميحا إلى صعود يسوع إلى السماء، وأنهى إنجيله بقول يسوع: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (2) خاتمة يوحنا
فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا نجد أن كاتب الإنجيل ينهي خاتمته الطويلة بتوجه يسوع إلى مكان مجهول دون أي إشارة إلى صعوده إلى السماء. وهذا ملخصها:
في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرا والظلام لم يتبدد بعد، فرأت الحجر وقد أزيل عن القبر فهرعت إلى سمعان بطرس وتلميذ آخر مغفل الاسم كان يسوع يحبه، وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعرف أين وضعوه. فخرج الاثنان مسرعين إلى القبر، فدخل بطرس أولا ورأى الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه في موضع على حدة. ثم دخل الآخر ورأى وآمن، لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات. بعد ذلك عادا إلى موضعهما، أما مريم فمكثت عند القبر خارجا. وفيما هي تبكي انحنت فرأت داخل القبر ملاكين في ثياب بيض جالسين حيث كان جثمان يسوع. فقالا لها: ما يبكيك أيتها المرأة؟ فقالت: أخذوا سيدي ولا أدري أين وضعوه. ثم التفتت وراءها فرأت يسوع واقفا ولكنها لم تعرفه وحسبته البستاني، فقالت له: يا سيد إذا كنت أنت قد أخذته فقل لي أين وضعته لآخذه. فناداها يسوع: مريم! فعرفته، وقالت له: يا معلم. فقال لها: اذهبي إلى الإخوة وقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فرجعت وأخبرت التلاميذ أنها رأت يسوع وأنه أخبرها هذا الكلام. وفي المساء إذ كان التلاميذ في غرفة غلقت أبوابها خوفا من اليهود، ظهر يسوع في وسطهم وقال لهم: سلام لكم. ثم أراهم مواضع مسامير الصليب في يديه وموضع طعنة الحربة في جنبه. ثم قال لهم: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم. وبعد ثمانية أيام اجتمع التلاميذ في البيت والأبواب موصدة. وكان معهم توما الذي كان غائبا في المرة السابقة وأظهر شكه قائلا إنه لا يصدق توما الذي كان غائبا في المرة السابقة وأظهر شكه قائلا إنه لا يصدق حتى يضع إصبعه في أثر المسامير على يديه وأثر الحربة في جنبه. فقام يسوع في وسطهم وقال: سلام لكم. ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا فانظر يدي وهات يدك فضعها في جنبي ولا تكن منكرا، بل مؤمنا. بعد ذلك تراءى يسوع لستة من تلاميذه في الجليل وهم راجعون من الصيد في بحيرة طبريا، فجلس معهم إلى مائدة الطعام وأخذ الخبز والسمك وناولهم وأكل معهم. ثم قام ومشى قائلا لبطرس: اتبعني، فالتفت بطرس ورأى التلميذ الذي كان يسوع يحبه يسير خلفهما، فقال ليسوع: وهذا ما مصيره؟ فأجابه يسوع: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك؟ أما أنت فاتبعني. فذاع هذا القول عند الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت. ولكن لم يقل يسوع إنه لا يموت بل لو شئت أن يبقى حتى أعود فماذا يعنيك (يوحنا: 20).
Unknown page
تقودنا قراءة هذه الخاتمة إلى الملاحظات التالية: (1)
مريم المجدلية وحدها جاءت إلى القبر وكانت الشاهد الأول على قيامة يسوع. أما في رواية مرقس فثلاث نساء، وفي رواية متى اثنتان. (2)
يتحول الملاك الواحد عند متى إلى ملاكين عند يوحنا. وهنا تقتصر مهمتهما على سؤال المجدلية عن الغاية من دخولها. أما الحجر فكان مدحرجا كما كان عند مرقس. (3)
يظهر يسوع أربع مرات بعد قيامته، مرة للمجدلية ومرتين للتلاميذ في أورشليم، ومرة رابعة للتلاميذ أيضا في أورشليم. وذلك في مقابل ظهورين فقط عند متى واحد في أورشليم وآخر في الجليل. (4)
لم تتعرف المجدلية على يسوع في ظهوره الأول إلا بعد أن كلمها، واعتقدت أنه بستاني يوسف الرامي، بينما تعرفت عليه هي والمرأة الأخرى لفورهما عند متى وسجدتا له. (5)
يضيف يوحنا في روايته عنصر إظهار يسوع لآثار جراحه وقيام التلميذ توما بتحسس هذه الجراح. (6)
لا يصعد يسوع إلى السماء في نهاية خاتمة يوحنا، ولكنه يذهب برفقة بطرس إلى مكان لا يحدده كاتب النص. وبما أنه أراد للتلميذ الذي كان يحبه ألا يرافقه بل أن ينتظر عودته، فإن هذه العودة تبدو قريبة وليست في نهاية الزمان. (3) خاتمة لوقا
وحده إنجيل لوقا ينص صراحة على صعود يسوع إلى السماء. وإليكم ملخصا لخاتمته التي تفوق بطولها وتفاصيلها خاتمة يوحنا:
وكان النسوة اللواتي جئن مع يسوع من الجليل، وبينهن مريم المجدلية وحنة (أو يونا) ومريم أم يعقوب، يتبعن يوسف إلى موضع القبر، ونظرن كيف وضع جسده. فرجعن وأعددن حنوطا وأطيابا، وفي السبت استرحن حسب الوصية. ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس. فوجدن الحجر مدحرجا عن القبر، فدخلن ولكنهن لم يجدن جسد يسوع. وتراءى لهن رجلان عليهما ثياب براقة فخفن، ولكن الرجلين قالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ إنه ليس ها هنا بل قام. فرجعت النساء الثلاث مع البقية وأخبرن الأحد عشر والآخرين بما رأين، فبدا للتلاميذ قولهن ضربا من الهذيان. غير أن بطرس أسرع إلى القبر فلم ير هناك سوى اللفائف التي كانت على جسد يسوع. واتفق أن اثنين من التلاميذ (أحدهما اسمه كليوباس) كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قرية بجوار أورشليم وهما يتحاوران بشأن ما جرى في الصباح. فدنا منهما يسوع وراح يمشي معهما وهما لم يعرفاه، وسألهما عن موضوع مطارحتهما، فأخبراه بقصة يسوع وصلبه ودفنه وذهاب النسوة إلى القبر وما حدث لهن هناك، وحيرتهما إزاء ذلك كله. فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في جميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل في مجده؟ وعندما وصلوا إلى القرية تمسكا به ليدخل معهما. وعندما جلس معهما إلى المائدة أخذ الخبز وباركه ثم كسره وناولهما، وفي الحال انفتحت أعينهما وعرفاه ولكنه توارى عنهما. فعادا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر وأصحابهم مجتمعين، وكانوا يقولون لقد قام يسوع وتراءى لسمعان بطرس، فرويا لهم ما حدث لهما في الطريق. وفيما هم يتكلمون ظهر يسوع في الوسط منهم، وقال: سلام لكم. فدهشوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحا، فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ انظروا يدي ورجلي، إني أنا هو. جسوني وانظروا فإن الروح ليس له عظم ولحم كما ترون لي. وبعد ذلك أكل على مرأى منهم. ثم خرج إلى قرية بيت عنيا وهم يتبعونه، وهناك رفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء (لوقا: 24).
من قراءتنا لهذا النص نخرج بالملاحظات التالية: (1)
Unknown page
إن عدد النسوة اللواتي عرفن موضع القبر ثم جئن في صباح الأحد ومعهن الحنوط غير محدد، ويذكر الكاتب أسماء ثلاث منهن فقط، هن: مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وحنة. بينما ورد في إنجيل متى أنهن اثنتان: مريم المجدلية ومريم الأخرى. وفي إنجيل يوحنا تأتي مريم المجدلية وحدها إلى القبر. (2)
لم يتراءى يسوع للمرة الأولى أمام النسوة (المجدلية وحدها عند يوحنا، والمجدلية ومريم الأخرى عند متى)، وإنما أمام تلميذين يقصدان قرية خارج أورشليم، أحدهما يدعى كليوباس والآخر مجهول. وبعد ذلك ظهر لبطرس ثم للتلاميذ مجتمعين. وهذه الظهورات الثلاثة تحصل جميعها في أورشليم ومحيطها، وذلك في مقابل ثلاثة ظهورات في أورشليم ورابع في الجليل عند يوحنا، وظهور في أورشليم وثان في الجليل عند متى. (3)
لم يتعرف التلميذان على يسوع في ظهوره الأول لهما إلا بعد وصولهما معه إلى القرية عندما تناول الخبز وكسره، مثلما لم تتعرف عليه المجدلية عند يوحنا في ظهوره الأول لها وظنت أنه البستاني. وهذه ظاهرة غريبة لم يفسرها لنا النص. (4)
عندما أخبرت النسوة التلاميذ بشأن قبر يسوع الفارغ، بدا لهم هذا القول ضربا من الهذيان. وهذا يدل أيضا على أن التلاميذ لم يسمعوا سابقا بنبوءة يسوع عن موته وقيامته في اليوم الثالث. (5)
بعد سماع الخبر يهرع بطرس وحده لرؤية القبر، أما عند يوحنا فإن بطرس والتلميذ الآخر المغفل الاسم يهرعان معا إلى الموضع. بينما أغفل متى محاولة التأكد هذه وجعل التلاميذ يتوجهون مباشرة إلى الجليل لرؤية يسوع هناك. (6)
يلفت نظرنا بشكل خاص الطريقة التي صاغ بها لوقا حادثة صعود يسوع إلى السماء عندما قال: «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء.» وهذا يعني أن صعود يسوع جرى في خفية عن تلاميذه وليس على مرأى منهم. وأن كاتب الإنجيل إنما يقرر هنا عقيدة لاهوتية أكثر من وصفه لحادثة مشهودة.
لقد استبعدنا حتى الآن من هذه المقارنة الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس، والتي تتحدث عن ظهورات يسوع وصعوده إلى السماء، لأنها غير موجودة في نص مرقس الأصلي. ومع ذلك فلا بأس من وقفة قصيرة عند هذه الخاتمة، وإليكم نصها: «وبعدما قام باكرا في أول أسبوع ظهر أولا لمريم المجدلية التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين، فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون. فلما سمع أولئك أنه حي وقد نظرته لم يصدقوا. وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين إلى البرية. وذهب هذان وأخبرا الباقين فلم يصدقوا ولا هذين. أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام، وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن. وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون. ثم إن الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله.» (مرقس، 16: 9-19)
تفتقر هذه الخاتمة إلى الأصالة والحيوية التي ميزت الخاتمات الثلاث. فالظهور الأول ليسوع كان للمجدلية وحدها على ما هو الحال عند يوحنا. وقد وصفها صاحب هذه الخاتمة بأنها التي أخرج منها يسوع سبعة شياطين، مقتفيا بذلك أثر لوقا 8: 1-3. أما الظهور الثاني ليسوع لاثنين من التلاميذ وهما يمشيان في البرية، فمأخوذ من إنجيل لوقا 24: 13-35. وكذلك الأمر في الظهور الثالث للأحد عشر وهم مجتمعون في أورشليم (لوقا، 24: 36-37. قارن أيضا مع يوحنا، 20: 26). كما نلاحظ أن خطاب يسوع للأحد عشر مأخوذ من متى 28: 18-20. وتكلمهم بألسنة جديدة مأخوذ من سفر أعمال الرسل 2: 1-4، وصعود يسوع إلى السماء مأخوذ من لوقا 24: 51. أما عن القول بأنه جلس عن يمين الله، فإن الكاتب هنا لا يصف الحادثة كما وقعت وإنما يقرر فكرة لاهوتية صارت راسخة فيما بعد. لأنه إذا كان أحد قد شاهد يسوع يصعد إلى السماء، فكيف رآه جالسا عن يمين الله؟
ليس هذا كل شيء عن خفايا إنجيل مرقس. فقد صرنا نعرف الآن عن وجود نص لهذا الإنجيل أقدم من نص دير سانتا كاترينا، يدعوه الباحثون اليوم بإنجيل مرقس السري. وهذا ما سوف نتعرض له في الحلقة الثانية من هذه الدراسة.
إنجيل مرقس السري
Unknown page
ولغز التلميذ الحبيب
في دراستنا السابقة عن خفايا إنجيل مرقس، تحدثنا عن تفرد إنجيل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة المتشابهة مرقس ومتى ولوقا، سواء من حيث رسالته اللاهوتية أم من حيث روايته لأحداث مهمة بالنسبة لتشكيل العقيدة المسيحية. ولعل أهم هذه الأحداث التي انفرد بها يوحنا القصة المعروفة عن إحيائه لفتى كان يحبه اسمه لعازر بعد مضي أربعة أيام على موته. ولعازر هذا كان من أسرة غنية تمتلك بيتا واسعا في قرية بيت عنيا الواقعة على جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من أورشليم، وكان يعيش مع أختين شابتين له، الأولى تدعى مرثا والثانية مريم. وقد اعتاد يسوع زيارتهم بصحبة تلاميذه الاثني عشر والإقامة عندهم، على ما نفهم من القصة التالية التي أوردها فيما يلي ملخصة عن إنجيل يوحنا:
خلال زيارته ما قبل الأخيرة لأورشليم أحس يسوع بالخطر الذي يتهدده من قبل اليهود الساعين لقتله، فترك المدينة ونزل إلى عبر الأردن حيث أقام مع تلاميذه في الموضع الذي كان يوحنا المعمدان يعمد فيه. فأرسلت إليه الأختان تقولان: يا سيد، إن الذي نحبه مريض. فمكث يسوع في مكانه يومين، ثم قال لتلاميذه: إن لعازر قد مات وإن عليهم التوجه إلى بيت عنيا. فلما وصل يسوع علم أن لعازر قد دفن منذ أربعة أيام، وكان كثيرون من اليهود قد جاءوا إلى مريم ومرثا ليعزوهما عن أخيهما. فلما سمعت مرثا أن يسوع آت خرجت لملاقاته بينما مكثت مريم في البيت مع المعزين، وعندما لاقته خارج القرية قالت له: يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. لكنني أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك إياه. فقال لها يسوع: سيقوم أخوك. ثم إن مرثا مضت ودعت مريم سرا قائلة لها: إن المعلم قد حضر وهو يدعوك. فقامت، وتبعها من كان في البيت من المعزين معتقدين أنها ذاهبة إلى القبر لتبكي هناك. فلما رأت يسوع خرت عند رجليه قائلة: يا سيد، لو كنت هنا لم يمت أخي. فلما رآها تبكي والذين جاءوا معها يبكون أيضا اضطربت روحه، وقال: أين وضعتموه؟ قالوا: يا سيد تعال وانظر. فبكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كم كان يحبه. فاضطربت روحه ثانية وتقدم من القبر، وقال لهم أن يرفعوا الحجر الذي يسد مدخله. فقالت له مرثا: يا سيد، قد أنتن لأن له أربعة أيام. فأجابها يسوع: إن آمنت ترين مجد الله. فرفعوا الحجر ونظر يسوع إلى السماء، وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك تسمع لي في كل حين، ولكن قلت هذا من أجل الجمع الواقف ليؤمنوا أنك قد أرسلتني. قال هذا وصرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجا. فخرج الميت وهو مربوط بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم حلوه ودعوه يذهب (يوحنا: 11).
بعد ذلك اعتزل يسوع وتلاميذه في البرية لأن سعي الكهنة والفريسيين لقتله قد اشتد، وتآمروا لقتله بعد أن آمن به عدد كبير من الناس بسبب معجزة قيامة لعازر. وقبل الفصح بستة أيام عاد إلى بيت عنيا فصنعوا له عشاء، وكان لعازر أحد المتكئين معه إلى المائدة، وكانت مرثا تخدم. عند ذلك أخذت مريم زجاجة فيها منا (= 300غ) من عطر ناردين خالص غالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحته بشعرها فامتلأ البيت برائحة الطيب (يوحنا، 12: 1-3) بعد ذلك يختفي لعازر من إنجيل يوحنا ولا يظهر خلال الأحداث العاصفة الأخيرة في حياة يسوع، ولا نجده حاضرا واقعة الصلب. وهذا أمر ملفت للنظر إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك المحبة العميقة التي جمعت بينهما.
على أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على القارئ الحصيف للعهد الجديد هو التالي: إذا كانت معجزة إحياء لعازر تمثل قمة معجزات يسوع، وتعتبر بمثابة البرهان الساطع على أنه مرسل من قبل الآب، فلماذا انفرد إنجيل يوحنا بروايتها وسكتت عنها بقية الأناجيل؟
بقي هذا السؤال بلا جواب مقنع حتى عام 1958م، عندما اكتشف الباحث مورتون سميث في بقايا أرشيف دير مار سابا الواقع على مسافة 20 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس، نسخة عن رسالة مكتوبة باللغة اليونانية وجهها اللاهوتي المعروف كليمنت الإسكندراني، الذي نشط في أواخر القرن الثاني الميلادي، إلى قس فلسطيني يدعى تيودور، يجيبه فيها على عدد من الأسئلة بخصوص وجود إنجيل سري لمرقس يسرد أحداثا لم يرد ذكرها في الإنجيل المتداول، تستخدمه طائفة غنوصية معروفة باسم الكاربوكريتيين نسبة إلى معلمهم كاربوكريتوس، الذي نشط في الإسكندرية خلال مطلع القرن الأول الميلادي، وقال: إن الروح لن تنعتق من دورة التناسخ في الأجساد إذا لم تسدد دينها لهذا العالم عن طريق التمتع بكل ملذات الحياة، لا سيما الجنسية منها. وقد عثر مورتون سميث على هذه الرسالة مطوية وملصقة. ضمن غلاف مقوى لكتاب مطبوع في القرن السابع عشر وضعه أحد آباء الكنيسة غير المشهورين. وكان رهبان الدير في تلك الأيام يصنعون أغلفة الكتب الجديدة عن طريق لصق عدد من الأوراق السائبة المتبقية من مخطوطات قديمة، نظرا لندرة الورق لديهم. وقد عرض سميث الرسالة على عدد من الاختصاصيين الذين أكدوا أصالتها وتطابق لغة وأسلوب النص مع لغة وأسلوب كليمنت المميز.
1
بعد نشر سميث لنص رسالة كليمنت، جاءنا الجواب على السؤال المطروح. فالرسالة تشير إلى وجود إنجيل سري لمرقس كان متداولا في القرن الثاني الميلادي. وفي هذا الإنجيل السري ترد قصة إحياء يسوع لفتى ميت في قرية بيت عنيا، وهي تشترك في معظم عناصرها مع قصة إحياء يسوع للفتى لعازر، ولكنها تنتهي بخلوة طقسية بين يسوع والفتى الذي أقامه من بين الأموات لم ترد في إنجيل يوحنا. فلقد أحب الفتى يسوع بعد صحوته وتوسل إليه أن يبقى معه. ثم جاءه مساء وهو يرتدي مئزرا من الكتان على جسده العاري، وقضى الاثنان الليلة في ممارسة طقس تنسيبي معين من شأنه أن يجعله «عارفا بأسرار ملكوت الله» على حد تعبير النص. والترجيح أن هذا الطقس كان يتضمن التعميد بالماء، على ما يبدو من ذلك الاستعداد المسبق للفتى. وكما سنلاحظ من ترجمتي التي سأقدمها أدناه لرسالة كليمنت، فإن يوحنا، إلى جانب تغاضيه عن الخلوة الطقسية بين الطرفين، قد أدخل عددا من التعديلات على قصة مرقس الأقدم عهدا قبل أن يتبناها.
ولكن لماذا تبنى إنجيل يوحنا القصة وهو الأبعد في رسالته ومضمونه عن إنجيل مرقس، بينما رفضها متى ولوقا اللذان اعتبرا مرقس مصدرا رئيسيا لهما على ما أثبتنا في الحلقة الماضية؟ إن المسألة كما أراها هي أن دافع متى ولوقا إلى رفض قصة إحياء يسوع للفتى، هو الدافع نفسه الذي حدا بيوحنا إلى قبولها بعد تعديلها، أي خوفهما من سوء فهم المبتدئين في الدين للخلوة الطقسية بين يسوع والفتى. وقد أشار كليمنت في رسالته إلى هؤلاء المبتدئين عندما قال إن مرقس قد أعد إنجيلين ؛ الأول ظاهري بثه في الناس يحتوي على سيرة يسوع وأعماله وأقواله، وهو موجه إلى المبتدئين في الدين، والثاني روحاني باطني موجه إلى من تعمقوا في خفايا الدين وغاصوا في أسراره. يضاف إلى ذلك أنه تلقى عن يسوع تقاليد سرانية لم يدونها، من شأنها أن تأخذ بيد المريدين إلى قدس أقداس الحقيقة. ولهذا، يقول كليمنت لسائله، بأننا لا يمكن أن نقول الأشياء الحقيقية لكل الناس، وعلينا في مواجهة الكاربوكريتيين
2
Unknown page
الهراطقة الذين يعتمدون على إنجيل مرقس السري من أجل تبرير ممارساتهم الخليعة، أن ننكر تحت القسم أن مرقس هو كاتب هذا الإنجيل.
وإليكم النص الكامل للرسالة وهو من ترجمتي عن مورتون سميث: «لقد فعلت حسنا بردك على تعاليم الكاربوكريتيين النجسة. فهؤلاء هم الكواكب التائهة ممن أشارت إليهم نبوءات الكتاب المقدس، الذين يصدون عن الطريق الضيق للوصايا، ويولون وجوههم نحو الغور السحيق للخطايا الجسدية الشهوانية. إنهم بافتخارهم بامتلاك المعرفة، التي ليست إلا معرفة بسبل الشيطان، إنما يلقون بأنفسهم إلى التهلكة في عالم الظلمة السفلي. وهم في ادعائهم الوصول إلى الحرية إنما يقعون عبيدا لرغباتهم وشهواتهم. مثل هؤلاء الناس ينبغي مقاومتهم بكل الوسائل الممكنة. وحتى حين يقولون شيئا صحيحا فإن على من يحب الحقيقة ألا يوافقهم، لأنه ليس كل الأشياء الحقيقية هي حقيقة، ولا ينبغي على الحقيقة وفق ما تراها الآراء الإنسانية أن تكون مفضلة على الحقيقة بحسب الإيمان.
وفيما يتعلق بالأشياء التي يروونها بخصوص إنجيل مرقس الذي دون بإلهام إلهي، فإن بعضها مزور جملة وتفصيلا، وبعضها الآخر يحتوي على جزء من الحقيقة ولكنه منقول بشكل محرف؛ لأن الأشياء الحقيقية عندما تمتزج بالاختلاقات فإنها تتحرف. وعلى ما يقول المثل، فإنه حتى الملح يفقد طعمه.
خلال مرافقة مرقس لبطرس الرسول عندما كان مقيما في روما، قام بكتابة نص عن أعمال يسوع ولكنه لم يذكرها جميعا، مثلما لم يشر أيضا إلى تعاليمه السرية، وإنما اختار منها ما رآه مناسبا لتدعيم إيمان من هم في طور التعلم. وعندما استشهد بطرس جاء مرقس إلى الإسكندرية جالبا معه نوطاته الخاصة وتلك التي لبطرس، ومنها نقل إلى كتابه السابق ما وجده مناسبا للتمعن في المعرفة، ووضع إنجيلا روحانيا من أجل الساعين إلى كمالهم في الدين، ولكنه مع ذلك لم يكشف عن الأشياء التي لا يجب النطق بها، ولم يدون التعاليم التأويلية للسيد، وإنما أضاف قصصا جديدة إلى تلك التي أوردها سابقا. وذكر أقوالا يعرف مدلولاتها باعتباره متضلعا في أسرار الدين، والتي من شأنها أن تأخذ بيد مستمعها إلى قدس أقداس الحقيقة المخفية وراء حجب سبعة. وعندما حضرته المنية أودع مؤلفه هذا لدى كنيسة الإسكندرية حيث بقي في حرز حريز لا يطلع عليه إلا أولئك الذين جرى تقديمهم إلى الأسرار الكبرى.
ولكن بما أن الشياطين الحمقى يبتكرون دوما وسائل من أجل تدمير الجنس البشري؛ فقد زينوا للكاربوكريتيين أن يستميلوا أحد قسس كنيسة الإسكندرية من أجل العمل معهم، فحصل لهم على نسخة من الإنجيل السري وفسره لهم وفق آرائه التجديفية والشهوانية، كما وأنه مزج الكلمات الطاهرة فيه بأكاذيب نجسة. ومن هذا المزيج استمد الكاربوكريتيون تعاليمهم.
من هنا، وكما ألمحت سابقا، على المرء أن يصمد أمامهم عندما يعرضون تحريفاتهم، وينكر أن إنجيل مرقس السري هو من تأليف مرقس ولو كان ذلك تحت القسم. ذلك أن الأشياء الحقيقية يجب ألا تقال لكل الناس. ولهذا قالت حكمة الرب من خلال سليمان: «أجب الأحمق من خلال حماقته»، أي إن نور الحقيقة يجب ألا يعرض للعميان. وقالت أيضا: «يؤخذ من الذي ليس عنده.» و«دع الأحمق يعمه في الظلام». ولكننا نحن أبناء النور، استنرنا من الأعالي بفجر روح الرب، وحيثما روح الرب هنالك الحرية، وكل الأشياء طاهرة بالنسبة للطاهر.
ولذلك فإنني لن أتردد في إجابتك على أسئلتك التي توجهت بها إلي، داحضا بذلك الافتراءات من خلال كلمات إنجيل مرقس السري نفسها. فبعد قوله (في الإنجيل الذي بين يديك، الإصحاح 10 الآية 32): «وكانوا في الطريق صعودا إلى أورشليم» إلى نهاية قوله: «وفي اليوم الثالث يقوم» (الآية 34)، فإن الإنجيل السري يضيف المادة التالية التي أوردها لك كلمة فكلمة: «ثم جاءوا إلى بيت عنيا، فحضرت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدت أمامه قائلة: يا ابن داود ارحمني. فانتهرها التلاميذ، ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دفن فيه. ولدى اقترابه ندت من داخل القبر صيحة عظيمة. فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر ودخل لفوره إلى حيث كان الفتى فمد ذراعه إليه وأقامه ممسكا بيده. ولما رآه الفتى أحبه وتوسل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما من القبر توجهوا إلى بيت الفتى لأنه كان غنيا. وبعد ستة أيام لقنه يسوع ما يتوجب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتى وهو يرتدي مئزرا من الكتان على جسده العاري وبقي معه في تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من الأردن.»
بعد هذا المقطع، يتابع النص (المعروف لديكم، الآية 35): وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي ... وذلك إلى آخر المقطع (في الآية 45). ولكن جملة: «رجل عار إلى رجل عار» وكل الأشياء التي كتبت إلي بخصوصها، غير موجودة. وبعد قوله (في الآية 46): وجاءوا إلى أريحا، يضيف إنجيل مرقس السري هذه الكلمات فقط: وكانت أخت الفتى الذي أحبه يسوع، وأمه، وسالومة، موجودين هناك ولكن يسوع لم يجتمع بهم. أما بقية الأشياء التي كتبت لي بشأنها فهي من قبيل التزوير. هذا هو الشرح الحقيقي الذي ينسجم مع الفلسفة الحقة.»
3
من مقارنة نص قصة إحياء يسوع للفتى في إنجيل مرقس السري وإنجيل يوحنا، نجد عددا من نقاط الاختلاف بين القصتين. فالإنجيل السري لا يذكر لنا اسم الفتى بينما يسميه إنجيل يوحنا لعازر. والإنجيل السري يتحدث عن أخت واحدة دون أن يسميها، بينما يتحدث إنجيل يوحنا عن أختين إحداهما مرثا والأخرى مريم. تدعو الأخت يسوع في الإنجيل السري ب «يا ابن داود»، وهذا اللقب ينسجم مع لاهوت إنجيل مرقس وبقية الأناجيل الإزائية، بينما تدعوه الأختان في إنجيل يوحنا ب «يا سيد». في الإنجيل السري يتقدم يسوع ويدحرج الحجر بنفسه عن مدخل القبر، أما في إنجيل يوحنا فيطلب ممن حوله دحرجة الحجر. في الإنجيل السري يكون لاقتراب يسوع من القبر فعل المعجزة لأن الفتى يصحو وتصدر عنه صيحة عالية، ثم يدخل يسوع ويمد يده للفتى وينهضه؛ أما في إنجيل يوحنا فإن يسوع يقف خارجا ويهتف بصوت عال: لعازر هلم. فيخرج الفتى وهو مربوط بالأقمطة. ولكن على الرغم من هذه الاختلافات فإننا أمام قصة واحدة رويت من خلال تنويعين. ففي كلا الروايتين نجد أن مسرح الحدث هو قرية بيت عنيا التي وصل إليها يسوع قادما من نهر الأردن، وهنالك امرأة مات أخوها جاءت ورجت يسوع أن يحييه، ثم ينتهي الحدث بانبعاث الفتى من القبر.
Unknown page
ومن الملفت للنظر أن إنجيل مرقس المتداول على الرغم من حذفه لقصة إحياء يسوع للفتى وما تلا ذلك من طقس ليلي، فإنه يشير في مكان آخر إلى وجود شاب مع يسوع يرتدي مئزرا على عريه وذلك في مشهد القبض على يسوع في بستان جتسماني الذي لا يبعد كثيرا عن قرية بيت عنيا في جبل الزيتون؛ حيث نقرأ هذه الجملة الخارجة عن سياق الحدث: «وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكه الشبان (الذين جاءوا للقبض على يسوع)، فترك الإزار وهرب عاريا» (مرقس، 14: 51). وبدون أي تفصيل آخر يتابع كاتب الإنجيل: «ومضوا بيسوع إلى دار رئيس الكهنة ... إلخ.»
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل غاب لعازر فعلا عن بقية أحداث الإنجيل كما توهم الباحثون في كتاب العهد الجديد؟
إذا عدنا القهقرى إلى حادثة إحياء يسوع للشاب في إنجيل مرقس السري وفي إنجيل يوحنا، نجد أن القصتين تؤسسان معا للقب «التلميذ الذي أحبه يسوع» في الإشارة إلى لعازر. ففي رواية يوحنا نجد أن الأختين ترسلان إلى يسوع قائلتين: «يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض»، وذلك في إشارة إلى لعازر دون ذكر اسمه. وفي الشذرة الثانية من إنجيل مرقس السري يقول المؤلف: «وجاءوا إلى أريحا. وكانت أخت الفتى الذي أحبه يسوع وأمه وسالومة موجودين هناك.» بعد ذلك يتابع هذا الفتى ظهوره تحت هذا اللقب. ففي مشهد العشاء الأخير قال يسوع لتلاميذه: «الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني ... وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد من هو؟» (يوحنا، 15: 21-25).
وبعد القبض على يسوع تفرق التلاميذ، ولكن سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي يحبه يسوع تبعاه عن بعد: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفا عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفا خارجا عند الباب. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم البوابة فأدخل بطرس» (يوحنا، 18: 15-16).
وعندما رفع يسوع على الصليب كان التلميذ المحبوب وحده واقفا مع النساء تحت الصليب بينما كان بقية التلاميذ مختبئين: «وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه مريم، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية. فرأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه. فقال لأمه: أيتها المرأة هذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هذه أمك. فأخذها إلى بيته من تلك الساعة» (يوحنا، 19: 25-27. عن الترجمة الكاثوليكية). وعندما جاءت مريم المجدلية في أول الأسبوع إلى القبر باكرا ونظرت الحجر مرفوعا عن القبر، ركضت «وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه» (يوحنا، 20: 1-2). وعندما ترك يسوع تلاميذه بعد آخر ظهور له عقب قيامته وقال لبطرس أن يتبعه، التفت بطرس: «فرأى التلميذ الذي كان يحبه يسوع يسير خلفهما، ذاك الذي مال على صدر يسوع في أثناء العشاء ... إلخ.» وفي نهاية هذا المقطع يختتم نص إنجيل يوحنا بإشارة صريحة إلى أن كاتب الإنجيل هو التلميذ المحبوب نفسه: «هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا، وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق» (يوحنا: 21).
عندما جرى إقرار الأناجيل الأربعة المقبولة رسميا من قبل الكنيسة في أواخر القرن الثاني الميلادي، وعزي الإنجيل الرابع إلى التلميذ يوحنا ابن زبدي مثلما عزيت بقية الأناجيل إلى أصحابها المفترضين، جرى العرف السائد على المطابقة بين التلميذ الذي أحبه يسوع وبين التلميذ يوحنا ابن زبدي باعتباره مؤلف الإنجيل الرابع. ولكن المشكلة تكمن في أن اسم يوحنا لم يرد صراحة في أي موضع من الإنجيل الرابع، وذلك عدا إشارة عابرة إلى ابني زبدي دون ذكر اسميهما وهما على ما نعرف يوحنا ويعقوب أخوه (يوحنا، 21: 2). أما التلميذ «الذي أحبه يسوع»، وهو اللقب الذي أطلق على لعازر للمرة الأولى، فيتابع ظهوره إلى جانب يسوع تحت هذا اللقب، ثم نفهم من الخاتمة أنه مؤلف الإنجيل الرابع. فمن هو المؤلف الحقيقي لإنجيل يوحنا؟
في الحقيقة هنالك عدد من الباحثين في العهد الجديد قد لاحظوا ما لاحظته من صلة بين لعازر والتلميذ الغامض الذي أحبه يسوع الذي يتكرر ذكره في الإنجيل الرابع، ولكنهم لم يكونوا مستعدين للخروج عن التقاليد الراسخة التي تعزو الإنجيل الرابع إلى يوحنا ابن زبدي، فخرجوا برأي مفاده أن لعازر الذي أحياه يسوع هو في الواقع اسم آخر ليوحنا ابن زبدي. ومن ثم جرت المطابقة بين الشخصيتين. ولكن هذا التفسير لا يصمد أمام النقد المعتمد على نصوص العهد الجديد نفسها. وإليكم الأسباب: (1)
ينتمي يوحنا ويعقوب ابنا زبدي إلى أسرة جليلية؛ أما لعازر فينتمي إلى أسرة أورشليمية. (2)
لا نعرف عن وجود أخ للعازر بل أختين هما مرثا ومريم. (3)
كان يوحنا وأخوه صيادي سمك في بحيرة طبرية بالجليل، ثم تبعا بعد ذلك يسوع في حله وترحاله، وهما يظهران في بعض المشاهد مع أمهما بصحبة يسوع (راجع متى، 20: 20). أما لعازر فكان مستقرا في بيت كبير على مقربة من العاصمة كان من السعة بحيث يتسع ليسوع وتلامذته ليبيتوا فيه عدة أيام. ولعل من دلائل ثراء أهل هذا البيت وجود قبر فخم منحوت من الصخر في فنائه. ولا يحدثنا النص عن وجود أم للعازر التي يبدو أنها متوفاة، وكانت الأخت الكبرى مرثا هي المدبرة لشئون المنزل. (4)
Unknown page