Alf Layla Wa Layla Fi Adab
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Genres
وقد شاع بناء على ذلك الاعتقاد بأن ألف ليلة وليلة التي ترجمها جالان ثم ترجمت عنه إلى لغات أوروبية أخرى، ليست الترجمة الكاملة للكتاب، وقد زاد من ذلك الاعتقاد الصحيح قيام جالان بحذف الأشعار الكثيرة التي تتخلل حكايات ألف ليلة في نصها العربي. وحين قام المستشرق المعروف «إدوارد لين» بترجمته الجديدة للكتاب إلى الإنجليزية، سار على ذلك النهج من الرقابة الذاتية، فعمد إلى تهذيب وتنقيح كل ما رآه غير صالح لقراءة أبناء العصر الفكتوري الذي اشتهر بتزمته الشديد. ولذلك، حين بدأ المترجم والشاعر الإنجليزي «روبرت بين» في ترجمة ألف ليلة، أعلن أنها أول مرة يتم فيها تقديم ترجمة كاملة أمينة لجميع حكايات الكتاب العربي. وبالفعل، لم يحذف «بين» العبارات والألفاظ والمواقف الجنسية والإيروسية، ولكنه عمد إلى تغليفها في لغة إنجليزية قديمة وأسلوب عتيق، جعل فهمها صعبا؛ وصاغ الكلمات المكشوفة في أسماء وعبارات رمزية، حتى إن قارئ الإنجليزية في عصرنا الراهن لن تصدمه هذه الكلمات والعبارات، هذا إن فهمها أصلا. ولكن كل ذلك لم يعف «بين» من حذر الرقابة الصارمة التي كانت سائدة أيامه، فلجأ إلى الحيلة، بأن جعل توزيع وبيع نسخ ترجمته - التي جاءت في تسعة مجلدات - يقتصر على الاشتراكات الخاصة، وأصدرها عن دار نشر وهمية أطلق عليها اسم «جمعية فيون ». وقد أصدر «بين» ترجمته في 500 نسخة فقط، مع التعهد بعدم إعادة طبعها مرة أخرى إبان حياته، رغم أن عدد «الاشتراكات» التي تلقاها طلبا لترجمته بلغ الألفين.
وقد استغل «ريتشارد بيرتون» - الرحالة والمغامر والمستشرق الشهير - إقبال المشتركين على ترجمة «بين» فأصدر ترجمته هو - التي اعتمد في معظمها على ترجمة «بين» نفسها - في عام 1885م في عشرة أجزاء، أتبعها بسبعة أجزاء أخرى خلال الأعوام 1886-1888م - تحت عنوان «الليالي التكميلية». وقد ترجم بيرتون ألف ليلة وليلة كاملة، بما فيها الألفاظ والمواقف الإيروسية، ولكنه سار على نهج «بين» في ذلك أيضا، فصاغ تلك الألفاظ في لغة قديمة مهجورة قد لا يفهمها القارئ الإنجليزى، وإن كانت طبيعة بيرتون المتحررة جعلته أحيانا أصرح من «بين» في اختيار بعض الكلمات. وقد أصدر بيرتون طبعته على هيئة اشتراكات خاصة كذلك إفلاتا من الرقابة، وعن دار نشر مزعومة اختار لها اسما هنديا هو «جمعية كاماشسترا»، بينما هي في الحقيقة قد طبعت ونشرت في لندن ذاتها. وقد باع بيرتون جميع النسخ الألفين من ترجمته في طبعتها الأولى وحقق من وراء ذلك ربحا هائلا.
غير أن الإشارات الإيروسية والشروحات الجنسية عند بيرتون تتبدى أكثر ما تتبدى في الحواشي والتعليقات التي أضافها على المتن. وقد صب بيرتون في تلك الحواشي خلاصة أبحاثه وآرائه الشخصية حول العادات والتقاليد العربية والإسلامية، ودراساته الأنثروبولوجية والإثنوجرافية التي جمعها خلال سياحاته العديدة في البلدان العربية والإسلامية وغيرها، والتي كان يكتبها قبل أن يشرع في ترجمة ألف ليلة. ومما يؤخذ على بيرتون أنه كان يعمد أحيانا إلى الإضافة في النص كيما يضع فيه شيئا يتيح له التعليق عليه، فيتخذ ذلك تعلة لإظهار معلوماته الغزيرة حول موضوع ما. ومن أمثلة ذلك ما حدث في ترجمته لحكاية «البطل المسلم والصبية المسيحية»، ففيها جملة وردت هكذا في الأصل: «وعندها شرح لها الدين الإسلامي، فقبلت الإسلام دينا، وبعد ذلك توضأت وعلمها أداء الصلاة الإسلامية.» وقد ترجم بيرتون النص كالآتي: «وعندها شرح لها عقائد الدين الإسلامي، فأصبحت مسلمة، وبعد ذلك جرى اختتانها وعلمها أداء الصلاة.» وقد أقحم بيرتون مسألة الاختتان كيما يضع حاشية مسهبة يعلق فيها على موضوع ختان الإناث. ويقول في حاشيته: «يعتبر المسلمون، مثلهم في ذلك مثل الأقدمين (أرسطو وغيره) البظر مركزا للشهوة .. وهو يبرز من بين اللابيا. ويمثل قص رأس البظر عملية الختان الأنثوي. ويفترض المسلمون أن هذه الشعيرة قد ابتدعتها سارة التي شوهت هاجر نتيجة غيرتها منها، ثم أمرها الله بعد ذلك بالاختتان في نفس الوقت مع إبراهيم. والختان الآن (أو يجب أن يكون) عاما في الإسلام، ولا يتزوج عربي من فتاة لم «تتطهر» على ذلك النحو.»
ومن الواضح أن كلام بيرتون غير صحيح وتعوزه الدقة، وأنه يورد هذه المسائل لما تحمله من صفات إكزوتيكية وإيروسية أكثر منها معلومات علمية وتاريخية. وقد علق أيضا على حكاية خيانة زوجتي شاه زمان وشهريار مع العبيد السود بقوله: «تفضل النسوة الداعرات الزنوج على أساس حجم أعضائهم.» ويتبع هذه العبارة بمقاييس يقول إنه أجراها بنفسه في أنحاء متفرقة من العالم، وعلى جنسيات وإثنيات عديدة خلال ترحالاته. ويستطرد بيرتون في مثل هذه التعليقات الغريبة، التي يبدو أنه قد أضافها كمتبلات لترجمته. ويبدو أن بيرتون قد استقى بعض معلوماته القاصرة - مثل شرحه لطريقة ختان الإناث في قبائل أعالي النيل - من مشاهداته وتجاربه مع البغايا في أواسط القرن التاسع عشر!
وقد تبعت تلكما الترجمتين الضخمتين ل «بين» وبيرتون، ترجمة إلى الفرنسية قام بها «ماردروس»، ركز فيها كثيرا على النواحي الإيروسية في القصص، بل وكان يضيف من عندياته كيما يتوسع في تلك النواحي بصفة خاصة. وقد أصبحت تلك الترجمة مشهورة بإيروسيتها، رغم أنها صدرت في أوائل القرن العشرين، ولكن قوانين الرقابة الفرنسية كانت أكثر تسامحا عنها في الدول الأخرى، مما أدى إلى صدور العديد من كتب الأدب المكشوف - أو التي كان يشتبه في أنها من الأدب المكشوف كعوليس لجيمس جويس - في فرنسا أولا قبل صدورها بعد ذلك في الدول الغربية الأخرى. ومن الجدير بالملاحظة أنه حين كان التعتيم على النواحي الجنسية والألفاظ الصريحة والمشاهد الإيروسية في ألف ليلة وليلة قائما في ترجماتها الأوروبية، كانت النصوص العربية للكتاب يتم تداولها كاملة في حرية دون حرج أو رقابة. وقد ظل هذا قائما حتى الربع الأخير من القرن العشرين، فانقلبت الآية، إذ أصبحت الترجمات الغربية كاملة صريحة، بينما جرى مصادرة طبعات من ألف ليلة وليلة بالعربية في القاهرة، إلى أن عاد الكتاب إلى التداول بعد احتجاج المثقفين المصريين والعرب، وتم نشر طبعات جديدة للكتاب الكامل بوصفه من عيون التراث العربي.
أما الانفراج في حرية الترجمة إلى اللغات الأوروبية لألف ليلة وليلة الكاملة، فقد واكبت قوانين حرية النشر الأدبي والفني، بعد معارك قانونية وقضائية مريرة في بعض البلدان، قامت أولا في الولايات المتحدة، بمناسبة نشر رائعة جيمس جويس «عوليس» عام 1934م، وفي بريطانيا بعد ذلك للسماح بنشر نفس ذلك الكتاب، ولرواية د. ه. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي» التي ترافع فيها كوكبة من الأدباء البريطانيين المشهورين، وعلى رأسهم إ. م. فورستر.
وفي عام 1968م، قام «رينيه الخوام» بنشر ترجمته الفرنسية الكاملة لألف ليلة وليلة، حيث مارس حرية كاملة في نقل ألفاظ ومشاهد الحكايات، وأشعارها الإيروسية، بصراحة تامة. كذلك أصدر الباحث «حسين حداوي» مجلدين من حكايات ألف ليلة وليلة بالإنجليزية، أورد فيهما لأول مرة تقريبا تلك الألفاظ الإنجليزية الشائعة اليوم، التي يطلق عليها كلمات الحروف الأربعة، دون حاجة إلى اللجوء إلى الألفاظ الإنجليزية المهجورة، أو إلى التعتيم والتورية، كما في الترجمات السابقة.
وتذكر الباحثة «ميا جيرهارت» أن الشهرة الإيروسية قد أضرت بسمعة كتاب ألف ليلة وليلة في الغرب نتيجة أساسا للترجمات التي ركزت على تلك العناصر الجنسية وأضافت إليها. وتفرق الباحثة بين تلك العناصر، فتقول إن الكتاب يحتوي على عدة مقاطع من حكايات يكون العامل الإيروسي فيها مقصودا في حد ذاته، بيد أن هناك عددا أكبر من الحكايات والمقاطع والأوصاف التي ترد بصورة طبيعية في النص بلا تصنع أو تكلف، وهي وإن كانت غير مقبولة أو مستساغة في أوساط المجتمع الأوروبي في السابق - ولم تقبل إلا حديثا - فإنها لم تكن تثير حرجا على الإطلاق لدى الشعوب الشرقية. ومن المفارقات العجيبة أن هذا الموقف الذي تشير إليه جيرهارت قد انعكس تماما في عصرنا الحاضر؛ إذ أصبح المجتمع الأوروبي يقبل ويسمح بكتابات تصور العواطف الجنسية والإيروسية (بل والبورنوغرافية)، بينما أصبحت المجتمعات الشرقية، والعربية خاصة، ترصد وتطارد أي كتاب به ذكر أو تلميح جنسي أو إيروسي مكشوف. وكما ذكرنا، لم يسلم كتاب ألف ليلة وليلة من هجوم «المتشددين الجدد» الذين صادروها في مصر قلب الأمة العربية في أواخر القرن العشرين، بينما كنا نشتري مجلداتها الأربعة الكاملة من على سور الأزبكية بالقاهرة في الخمسينيات بقروش زهيدة!
والواقع يقول إن الألفاظ والمواقف «المكشوفة» التي ترد في حكايات ألف ليلة دون داع سوى الإثارة، يمكن حصرها في تصانيف محددة، هي - كما تذكر «ميا جيرهارت» أيضا: (1)
موقف التعرف بين قمر الزمان وبدور التي كانت متنكرة في زي رجل، والذي يتكرر في قصة علي شار، وما جاء في هذا المشهد من قصائد إباحية. (2)
Unknown page