Alf Layla Wa Layla Fi Adab
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Genres
فلما فرغت من شعرها بكت بكاء شديدا، ولم تزل تبكي حتى وقعت مغشيا عليها. واستمرت في غشيتها ثلاثة أيام، وماتت ودفنت في قبره. وهذا من عجيب الاتفاق في المحبة.»
وعلى نفس النسق تجيء حكاية «عتبة وريا»، وفيها يحكي عبد الله بن معمر القيسي عن قصة حضرها إبان الحج، إذ رأى غلاما ينشد أشعارا في الهوى العذري ويبكي بحرقة، فلما سأله عن حاله أجاب الفتى: «أنا عتبة الأنصاري، عدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيت راكعا وساجدا ثم اعتزلت أتعبد وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرا ولا وقعت لها على أثر وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان بحثا عنها. ويظل القيسي يواسيه حتى أقبلت كوكبة من النسوة وليست صاحبته بينهن، فسأل عنها فقلن إنها ريا بنت الغطريف السليمي. ويصطحب القيسي الفتى عتبة وأشراف قومهما إلى منازل أهل حبيبته طالبا يدها، إلا أن أبيها يقول: أقسمت لا أزوجنك بها أبدا بعد أن نمى إلي حديثك عنها. وبعد توسط الأشراف لدى عتبة وأبيها يوافقان على زواج الحبيبين. إلا أنه في طريق العودة إلى المدينة المنورة، خرجت على القوم غارة حمل عليها عتبة وقتل منها عدة رجال ولكنه أصيب بطعنة قضت عليه. وتبكيه ريا حتى تقضي نحبها معه. ويقول القيسي في روايته: «فحفرنا لهما قبرا واحدا وواريناهما في التراب ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلت والله لأعودن قبر عتبة، فأتيت إليه فإذا هو عليه شجرة عالية عليها عصائب حمر وصفر وخضر، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين.»
ثم هناك «حكاية على بن بكار مع شمس النهار» وهي كلها عبارة عن وصف تباريح الهوى وعذابات الحب بين بطلها ابن أحد ملوك العجم الذي كان مقيما ببغداد، ويلتقي مصادفة بالجارية شمس النهار محظية الخليفة هارون الرشيد. ويتمكن الحب بين الاثنين ويلتقيان في ظل خطر اكتشاف الخليفة لسرهما، وفي كل لقاء يغشى عليهما من فرط الود والجوى دون أمل في الوصال، وهو ما يضني علي بن بكار ويهلكه في النهاية هو والجارية من فرط العشق والجوى. وتتميز تلك القصة بذكر تباريح العشق وامتلائها بأخبار المرض والسقم من فرط الحب، وتكرار أن نتيجة العشق الحقيقي إما الوصال وإما الموت.
وقد أثارت مسألة أصول ومصادر الحب العذري الرومانسي، الذي اصطلح على تسميته بالإنكليزية
COURTLY LOVE
وبالفرنسية
AMOUR COURTOIS ، معارك بحثية عديدة حول طبيعة ونشأة هذا النوع من الحب الذي لم يكن معروفا في أوروبا في بداية العصور الوسطى، ثم ظهر فجأة في الكثير من المؤلفات القصصية والرومانسات والشعر والأغاني. وكانت بدايته الأوروبية في جنوب فرنسا، ثم انتقل إلى الشمال، وفي إيطاليا، وإنجلترا وأيرلندا. وقد حاول عدد من المستشرقين على مر الأعوام نفي الأثر العربي الأندلسي في نشأة تلك القصص والرومانسات الأوروبية التي تحكي عن ذلك النوع من الحب، وخاصة الأشعار التي كان يتغنى بها التروبادور والتروفير في فرنسا. وعلى نفس النحو، كان الباحثون والمستشرقون القدامى غافلين عن أي أثر تكون الثقافة العربية والإسلامية قد تركته في الرومانسات والملاحم والقصص التي ظهرت مع ظهور اللغات المحلية التي تفرعت عن اللغة اللاتينية في أوروبا. وحتى مع ظهور كتاب ألف ليلة وليلة في الغرب بدءا من عام 1704م، واعتراف الكثير من الأدباء والشعراء الغربيين بتأثرهم به، لم يركز مؤرخو الأدب ولا الباحثون على دراسة ذلك التأثير فيما أنتجه أولئك الأدباء والشعراء من أعمال. وتجدر الإشارة هنا على أن «الأثر العربي» لا يقتصر على ألف ليلة وليلة فحسب، بل يمتد إلى أعمال عربية كثيرة كانت متداولة في الغرب، مروية أو مكتوبة، مثل كليلة ودمنة وملاحم عنترة بن شداد وقصص حيل النساء، والكتابات الأخرى التي ذكرناها في مقدمة هذا الكتاب.
وكانت نقطة «الانفراج» في هذا الموقف القائم على التحيز والنعرات القومية، على يد المستشرقين الإسبان، متمثلا في الخطاب الذي ألقاه الباحث والمستشرق الإسباني الشهير «ميجيل آسين بالاسيوس» بمناسبة انضمامه إلى الأكاديمية الملكية الإسبانية في 26 يناير 1919م، وأعلن فيه لأول مرة أنه قد توصل بعد طول بحث وتدقيق إلى أن دانتي في ملحمته «الكوميديا الإلهية» قد تأثر بأعمال إسلامية في الإطار الذي رسمه لملحمته، وفي تفاصيل وصفه للجحيم والفردوس، بل والمطهر (وهو الأعراف في الإسلام)، بما ورد في الكتب العربية الإسلامية في الشروح والتفسيرات لآيات الإسراء في القرآن الكريم، وبرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكتب الصوفي الأندلسي الأشهر محيي الدين بن عربي.
وكان أثر ذلك الخطاب الذي نشره بالاسيوس بعد ذلك، أشبه بوقع القنبلة، كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي»، الذي اعتمدت عليه فيما يخص هذا القسم الذي يتناول دانتي. ونشط المستشرقون المتعصبون للاعتراض على ما ذكره آسين بالاسيوس، خاصة الإيطاليين الذين دافعوا عن أصالة شاعرهم «القومي»، أن يكون قد تأثر «إسلاميا» في عمله العظيم، ونسوا أن ليس هناك من إبداع يأتي من فراغ، وأن التأثيرات العربية والإسلامية كانت هي العملة الرائجة في ذلك العصر. وفي حين اعترف الغرب من زمن بأثر العرب والمسلمين في المجالات العلمية كالهندسة والبصريات والطب والزراعة والفلك والجبر وغيرها، بل والمجالات الفلسفية أيضا من تطويرات وتجديدات للفكر اليوناني، في كتب ابن رشد والغزالي والفارابي وغيرهم كثيرين، كانوا يغضون النظر عن التأثيرات الأدبية والفنية، مع أن هذا ليس من المنطق في شيء إذ إن الأمور تؤخذ برمتها؛ فإذا كان الغرب قد اطلع على ما كتبه وتناقله العرب والمسلمون من علم وفلسفة، بل وأيضا من تاريخ وجغرافيا وخرائط؛ فماذا يمنع من اطلاعه على ما تناقلوه وكتبوه من فن وأدب وموسيقى؟ ويبدو أن عدم وجود الصلة الواضحة المباشرة من ترجمات ومخطوطات عن تلك الأعمال هو ما أدى بالباحثين والمستشرقين إلى إنكارهم ذلك التأثير، وفاتهم أن الأعمال الأدبية العربية والإسلامية كانت في أكثرها في ذلك الوقت تلقى شفاهة ورواية وإنشادا وغناء من أفواه الشعراء والرواة والمغنين ومنشدي الملاحم والقصص الشعبية والأساطير والرومانسات. كذلك أغفلوا واقع أن الكثير من المخطوطات والرسائل والكتب العربية قد تعرضت للتدمير بعد حركة الاسترداد الإسبانية إثر الحمية القومية والدينية التي اجتاحت إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492م، ثم بعد طرد العرب والمسلمين كلية من أراضيها عام 1609م. وقد تكفلت جهود محاكم التفتيش بإتلاف أو إخفاء أي أثر للكتابات العربية في تلك الأراضي. ويذكر المستشرق «نيكل» نقلا عن «ألتاميرا» أن كبير أساقفة طليطلة «خيمينيز دي سيزنيروس» كان يجمع أكواما من الكتب والمخطوطات العربية ويحرقها في ميدان «تل الرملة» بغرناطة. كما أصدر سيزنيروس عام 1511م مرسوما يأمر كل من بقي من العرب والمسلمين الذين أجبروا على اعتناق الكاثوليكية وأصبحوا يعرفون باسم الموريسكيين
MORISCOS
Unknown page