وفيما كنت في طريقي مطرقا مفكرا أفقت على صدمة عنيفة دفعتني إلى جانب الطريق، وكادت تقذف بي إلى النهر الصافي، الذي ما زال منذ الأبد القديم يجري غير مبال إقامة الناس في ماهوش أو خروجهم منها. ولكني تماسكت وتعلقت بشجرة قريبة، وتلفت حولي لأرى ذلك الذي كاد يحطمني بصدمته، وامتلأ قلبي غما وتشاءمت برحلتي. فهذا أول الطريق أصطدم فيه وأخبط بمثل هذه الخبطة الشديدة. فرأيت فارسا من جنود تيمور هؤلاء أصحاب القلانس العالية، الذين يحسنون الانتفاش في ملابسهم الزاهية. وكان ينظر نحوي كأنه ينتظر مني أن أشكره على صدمته. فاعتراني إحساس لا أستطيع وصفه إلا بأنه مزيج من الخوف والغضب؛ فإنني رجل لا أحب الحروب ولا من يخوضونها، ولا أطيق أن أرى دجاجة تذبح تحت ناظري. فكيف بي وقد رأيت أمامي رجلا من جنود تيمور الذين يملئون الأرض دماء؟ كانت نظراتي إلى الفارس تنم عما كان في نفسي، ووقفت أتأمله، وكان منظره في الحق عجيبا. كان مثل الببغاء في زينته الكاملة: من قلنسوة حمراء فوقها ريشة زرقاء، من تحتها عباءة صفراء تغطي ملابس أخرى لا أعرفها بيضاء وخضراء، ولف على وسطه منطقة سوداء، ودلى في جنبه سيفا مقوسا منقوشا بالذهب والفضة، مرصعا بالجواهر، ومن تحته وتحت كل زينته جواد كريم لا يقل في ألوان زخرفه عن صاحبه. فقلت في نفسي: «سبحان الله! ما هذا كله؟» وجعلت أصعد فيه بصري وأصوبه من أعلى ريشته إلى حافر جواده، وأحسست أن خوفي وغضبي قد تبدلا وامتلأ قلبي ضحكا. فتبسم الفارس وأخذ يكلمني بلغة لم أفهم منها إلا يسيرا، فهمت منه أنه يريد أن يعرف من أنا، فقلت له أريد أن أصرفه وأتجه في سبيلي: «أنا فقيه.» ثم هممت بالسير، فهمز جواده يسايرني وقال وفي صوته رنة السرور: «فقيه؟»
فهززت رأسي أن نعم، ومضيت في سبيلي. ولكنه كرر سؤاله في اهتمام. فخشيت أن ينخدع الرجل عن حقيقتي، وهو لا يعرف لغتي. فلعل لهذا اللفظ (فقيه) معنى آخر عنده، مثل تاجر أو صيرفي أو جوهري، فيحسب خطأ أنني ممن يطمع فيهم رفاق الطريق، فيبادر بإيقاع الأذى بي، فبادرت قائلا: «أديب.» واخترت هذه الكلمة لأنها معروفة للناس جميعا، ولا تحمل لبسا، ولا يختلط على أحد معناها؛ فكل الناس يعرفون من هو الأديب. هو الرجل الذي لا يملك من حطام الحياة شيئا. ولكن الفارس لم يعجبه هذا اللفظ، وكرر الكلمة الأولى سائلا: «فقيه؟» فملأت عيني منه وتنازعني الخوف، ولكني رأيت أنه قد بدأ يعبس. فخفت إن ضحكت أن يغضب، واكتفيت بأن هززت رأسي له بالإيجاب، وفوضت أمري إلى الله. فأسرع الرجل فنزل عن جواده وفتح لي ذراعيه، وأقبل علي يضمني إلى صدره، ويقبلني بين عيني، ويرطن بكلام كثير. ففهمت منه إجمالا أنه قائد كتيبة في جيش تيمور، وأنه طالما طمع في أن يكون عنده فقيه ليكون لكتيبته زينة إسلامية. فلما عرف أنني فقيه سره ذلك، وعزم على أن يأخذني معه. ثم أمرني في رفق أن أسير وراءه، فقلت: «سبحان الله! أهذه محنة جديدة؟» ووقفت حائرا مترددا. فنظر إلي وصاح بي مكررا أمره أن أسير وراءه. فلم أجد بدا من السير، ومضيت في أثره مطرقا أفكر في أمري. ثم قلت أعزي نفسي: «إن السير وراء هذا الفارس لن يغير شيئا من حالي؛ فقد خرجت من ماهوش لأسير في الأرض، وسواء لدي شرق وغرب.» وانطلقت أمشي قريبا من ذيل جواده وأنا أكاد أغمض عيني.
وما زلنا نسير حتى مالت الشمس عن كبد السماء، وأخذ التعب يدب في أوصالي ، فنظرت إلى الفارس لعلي أرى عليه علامة تبشر بأنه يريح جواده، فلم أجد على مظهره ما ينم عن شيء من ذلك؛ لأنه كان يهز رجليه ويغني مرحا. ومضى زمن طويل بعد ذلك حتى بلغنا قرية، فاجتزنا بها. وفيما نحن خارجان منها طلع علينا فارس آخر عند منعرج الطريق، فلما رآنا أقبل نحونا يسعى، وكان في زينته أشبه الناس بصاحبي، حتى خيل إلي أنه توءمه وقد ولدا معا فوق جواديهما. فلما اقترب الفارس منا حيا صاحبه ووقف حياله يحدثه، ثم التفت نحوي وجعل يفحصني ببصره حينا، ثم عاد إلى صاحبه يراطنه باهتمام. ولم أدر ما كان بينهما من الحديث إلا أنني سمعت الفارس يصيح وهو ينظر نحوي: «فقيه؟»
فخفق قلبي خفقة شديدة، ونظرت إليه مندهشا، ثم أحسست أن الضحك يكاد يغلبني، فملكت نفسي وقلت باسما: «نعم فقيه.» فنظر إلي صاحبه وجعل يحادثه، ثم سمعت الحديث يحمى والألفاظ تسرع فيما بينهما، ثم رأيت الرجلين يجردان سيفيهما ويقف أحدهما حيال الآخر وقفة الحرب والنزال. فدب الأمل إلى قلبي وقلت لعل هذا أول الفرج؛ فليس للفريسة من أمل إلا إذا تطاحن عليها الوحوش. ووقفت أنظر إليهما متفرجا، وكانا مثل ديكين وقفا ليتناقرا. ولكني لم ألبث إلا قليلا حتى رأيت المنظر يتحول فجأة تحولا كريها؛ فإن الفارسين لم يقفا وجها لوجه إلى نهاية المعركة المرة، بل رأيت صاحبي الأول يتجه نحوي مجردا سيفه ليقتلني؛ نعم ليقتلني أنا. ونظر قبل أن يتم عمله إلى قرينه وقال له ما معناه: «سأقتله حتى لا يكون لي ولا لك.» ففهمت من هذا أن ما بينهما من الجدال كان في شأني، وعلمت أن صاحبي أراد أن يحسم الخلاف الذي بينه وبين صاحبه بأن يبقر بطني. وكان لا بد لي من الدفاع عن نفسي بما استطعت، فصحت قائلا: «حاسب، ماذا تريد؟»
فتوقف الرجل وجعل يبين لي قصده في لهجة الاعتذار. فقلت متكلفا الهدوء: «هذا رأي غير صائب.»
فرد علي بكلام كثير يحاول به أن يفهمني أنه لا يريد إلا العدالة؛ فإنه لا يليق عدلا أن أكون فقيه غريمه بغير حق؛ لأنه قد سبق إلى وضع يده علي. فلم أرد أن أجادله في ذلك، والعدالة على أية حال أمر نسبي يختلف الناس في فهم معناها؛ فيراها القوي من زاوية، والضعيف من زاوية أخرى، ولا سبيل إلى تلاقي نظرتيهما. ولم أجد وسيلة تنجيني من هذه العدالة إلا أن أجرد لها لساني وحيلتي. فقلت وأنا أرتجف: هذا كلام حسن. ولكن ألا ترى أيها الشجاع أن تحتفظ بي حيا؟ فإني أقدر على أن أنفعك، وتستطيع أن تجد في خيرا كثيرا.
فنظر إلي غير مصدق، فقلت له مسرعا: أنا رجل شاعر، أقدر على أن أرفع من شأنك حتى يراك الناس سيد الخلق، وأقدر على مدحك بما لا تتصور أنه فيك، فيصدق الناس أنك أفضلهم وأسمحهم وأعلمهم وأعقلهم وأحكمهم وأشجعهم.
ولست أدري أفهم قولي أم لم يفهمه، ولكني رأيته قد لان ورق لي، فأتبعت قولي: إنك رجل باسل بغير شك، وتستطيع أن تقاتل خصمك حتى تقتله أو تعجزه. فإذا تم لك ذلك سرت وراءك شرقا أو غربا كما تشاء.
ولكن هذا الرأي لم يعجبه، فأطرق مفكرا وهو يتأفف، ثم رفع رأسه بعد حين وقد تهلل وجهه كأن فكرة موفقة سنحت له، وتقدم نحوي باسما ووضع يده على كتفي قائلا: «عفارم!»
ثم لوى عنان فرسه وأسرع إلى صاحبه، وسرت وراءه في لهفة، فسمعته يقول له: «أتذكر الكلب الأسود الذي أودعته عندي؟» فقال له الفارس باهتمام: «نعم بلا شك، وأنا في حاجة إليه.» قال له صاحبي مبتسما في خبث: «إذا أردته فانزل لي عن هذا الفقيه.» وأشار إلي. وصمت قليلا ثم قال: «وإلا فإني قاتل كلبك عند عودتي.» وكانت هذه الكلمات كالصاعقة إذا انقضت على الرجل. فنزل عن جواده مترنحا وجثا على ركبتيه، وجعل يتوسل إلى صاحبه بكل كلمة رقيقة أن يبقي على كلبه، وأن يفعل بي ما شاء. ثم مسح دمعة ثارت في عينه، وسلم لصاحبه بغير قيد ولا شرط. ولست أنكر أنني قد رققت للرجل في حزنه من أجل كلبه، وشيعته بنظري وهو منصرف عنا وفي قلبي مودة له ورحمة.
Unknown page