Siraj Munir
السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
Publisher
مطبعة بولاق (الأميرية)
Edition Number
الأولى
Publisher Location
القاهرة
Genres
تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحابًا ماطرًا. ﴿فأخرج به من﴾ أنواع ﴿الثمرات رزقًا لكم﴾ تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببًا في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة
يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشائها مرتقيًا من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرًا وسكونًا إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.
تنبيه: من الأولى للابتداء ومن الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى: ﴿فأخرجنا به ثمرات﴾ (فاطر، ٢٧) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقًا كأنه تعالى قال: وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق، ويصح أن تكون من الثانية للتبيين ورزقًا مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل: أنفقت من الدراهم ألفًا، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفًا.
فإن قيل: المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة؟ أجيب: بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى: ﴿كم تركوا من جنات﴾ (الدخان، ٢٥) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى: ﴿ثلاثة قروء﴾ (البقرة، ٢٣٨) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة ﴿فلا تجعلوا أندادًا﴾ أي: شركاء في العبادة.
فإن قيل: لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أندادًا مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله؟ أجيب: بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادًا لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه:
*أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور*
أدين أي: أطيع، من دان أي: انقاد، إذا تقسمت أي: تفرّقت:
*تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير*
*ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالًا كان شأنهم الفجور*
*وأبقى آخرين ببرّ قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير*
وقوله تعالى: ﴿وأنتم تعلمون﴾ حال من ضمير ﴿فلا تجعلوا﴾ ومفعول تعلمون متروك، أي: وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله تعالى: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وعلى
1 / 33