Al-Mutashabih
المتشابه
Genres
المتشابه
د. عبد المجيد بن محمد الوعلان
1 / 1
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد:
فإن العلم بالتفسير أمر مهم، والعلم بالتأويل أهم، وتصفية القلوب من شوائب الأوهام أسنى وأتم، ومن السلامة للمرء في دينه اقتفاء طريقة السلف الذين أمر أن يقتدى بهم من جاء بعدهم من الخلف.
فمذهب السلف أسلم، ودع ما قيل من أن مذهب الخلف أعلم، فإنه من زخرف الأقاويل، وتحسين الأباطيل، فإن أولئك قد شاهدوا الرسول والتنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل، ومع ذلك فلم يكونوا يخوضون في حقيقة الذات، ولا في كيفيات الأسماء والصفات، ويؤمنون بمتشابه القرآن، وينكرون على من يبحث عن ذلك من فلانة وفلان (^١).
وهذا بحث مختصر عن مصطلح من مصطلحات التي ترد في كتب العقيدة، وهو: المتشابه، فإن من المهم معرفة المصطلحات الواردة في كتب العقيدة؛ لأن ذلك يعين على فهم المسألة الوارد فيها، ويزيل الإشكال واللبس الذي قد يحصل عند القارئ (^٢).
وقد اشتمل هذا البحث على مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة فتشمل على:
- أهمية البحث.
- خطة البحث.
- منهج البحث.
_________
(^١) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات المشتبهات، تأليف مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ص ٤٥ - ٤٦، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى.
(^٢) انظر: مصطلحات في كتب العقيدة لمحمد الحمد.
1 / 2
أما التمهيد فيشمل: تعريف المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح.
- المبحث الأول: الإحكام والتشابه في القرآن الكريم.
- المبحث الثاني: الحكمة من وجود المتشابه في القرآن والسنة.
- المبحث الثالث: أنواع المتشابه.
- المبحث الرابع: موقف المسلم من المتشابه.
- المبحث الخامس: حكم تأويل المتشابه.
- المبحث السادس: رد دعوى أن صفات الله من المتشابه.
أما الخاتمة فقد ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها.
أما منهجي في البحث فهو كالتالي:
١ - عزو الآيات إلى أماكنها في القرآن، وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية ووضعها بين قوسين ﴿﴾.
٢ - تخريج الأحاديث والآثار، وذلك بذكر المصدر ورقم الحديث إن وجد ورقم الجزء والصفحة.
٣ - عمل فهرس للمراجع.
٤ - عمل فهرس للموضوعات.
وأسأل الله ﷾ أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د: عبد المجيد بن محمد الوعلان
awalaan@gmail.com
1 / 3
التمهيد: تعريف المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح (^١).
أولًا: المحكم والمتشابه في اللغة:
المحكم في اللغة (^٢):
المحكم: مأخوذ من حَكَم الذي أصله: منع منعًا لإصلاح، ومنه سميت اللجام حَكَمة الدابة، لأنها تمنعها عن ركوب رأسها، وسمي الحاكم حاكمًا لمنعه الظالم من الظلم، ويقال: حَكَمت الرجل وحَكَّمته وأحَكْمته إذا منعته، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا (^٣)
أي: امنعوهم من السفه.
والحكمة: سميت حكمة، لمنعها النفس عن هواها، والحكيم المتقن للأمور (^٤).
وبهذا يظهر أن معنى المحكم في اللغة يرجع إلى معنيين، وهما: المنع والإتقان.
المتشابه في اللغة (^٥):
أصل المتشابه: من الشِّبه والشَّبَه، وهو أن يشبه أحد الأمرين الآخر حتى يلتبسا، والشبهة الالتباس، والمتشابهات من الأمور المشكلات (^٦).
يقول ابن قتيبة ﵀: " وأصل التشابه أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان، قال الله ﷿ في وصف ثمر الجنة: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] (^٧)، أي: متفق المناظر مختلف الطعوم، وقال: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨] (^٨)، أي يشبه بعضها بعضًا في الكفر والقسوة.
ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر، إذا أشبه غيره فلم تكد تفرق بينهما، وشبّهت عليّ، إذا لبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، لأنهم يشبهون الحق بالباطل، ثم قد يقال لكل ما غمض ودق متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره" (^٩).
_________
(^١) انظر: قواعد التفسير تأليف خالد السبت ص ٢/ ٦٥٩ - ٦٦٠، دار ابن عفان، الجيزة، الطبعة الأولى.
(^٢) انظر: لسان العرب لابن منظور، تحقيق عبدالله الكبير وآخرون، ص ٢/ ٩٥٣ مادة حكم، طبعة دار المعارف، القاهرة.
(^٣) البيت في ديوان جرير تحقيق نعمان طه، ١/ ٤٦٦، طبعة دار المعارف بمصر، عام ١٩٧١. لسان العرب ص ٢/ ٩٥٣.
(^٤) انظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي لأبي منصور الأزهري تحقيق عبدالمنعم بشناتي ص ٥٥١، دار البشائر، بيروت، الطبعة الأولى. المفردات في غريب القرآن / للأصفهاني تحقيق صفوان داوودي ص ٢٤٨ - ٢٥١، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية. الصحاح لإسماعيل الجوهري تحقيق أحمد عطار ٥/ ١٩٠١ - ١٩٠٢، الطبعة الثانية.
(^٥) انظر: لسان العرب ص ٢١٨٩ مادة شبه، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص ٤٤٣ - ٤٤٥.
(^٦) انظر: المفردات للأصفهاني ص ٤٤٣ - ٤٤٥، الصحاح للجوهري ص ٦/ ٢٢٣٦، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة للطاهر أحمد الزاوي ٢/ ٦٧٠ - ٦٧١، عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية.
(^٧) سورة البقرة: ٢٥.
(^٨) سورة البقرة: ١١٨.
(^٩) انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة لسليمان الغصن ص ١/ ٣٦٧ - ٣٦٩، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى.
1 / 4
ثانيًا: المحكم والمتشابه في الاصطلاح (^١):
للمحكم والمتشابه إطلاقان: عام وخاص:
أولًا: الإطلاق العام للمحكم والمتشابه:
أ- معنى المحكم: هو البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره، وذلك لوضوح مفرداته وإتقان تركيبها (^٢). فهو كالمفسر في أحد استعماليه عند الأصوليين (^٣).
ب- معنى المتشابه: يقال لكل ما غمض ودق، فهو يحتاج في فهم المراد منه إلى تفكر وتأمل، إذ أنه محتمل لمعاني كثيرة ومختلفة، فهو كالمشكل؛ لأنه دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله (^٤).
ثانيًا: الإطلاق الخاص للمحكم والمتشابه:
اختلفت عبارات العلماء في تحديد معنى الإحكام والتشابه الذي وردت به بعض نصوص الكتاب والسنة، وبصورة أخص قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)﴾ [آل عمران: ٧] (^٥).
_________
(^١) انظر: القائد إلى تصحيح العقائد تأليف عبد الرحمن المعلمي، علق عليه الشيخ ناصر الدين الألباني ص ١٨٦ - ١٨٩، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة. ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب لمحمد الأمين الشنقيطي ص ٣٨، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى.
(^٢) انظر: الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي تحقيق عبدالله دراز، ص ٣/ ٨٥، توزيع عباس الباز، مكة، الطبعة الثانية. وتفسير ابن كثير تقديم يوسف المرعشلي ص ١/ ٣٥٢، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي تحقيق عبدالله التركي ٥/ ١٧، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى.
(^٣) انظر: الحدود لأبي الوليد سليمان الباجي تحقيق نزيه حماد ص ٤٦ - ٤٧، مؤسسة الزغبي، بيروت عام ١٣٩٢ هـ.
(^٤) انظر: تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ص ٧٤ - ٧٥، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، مصر. والحدود ص ٤٧.
(^٥) سورة آل عمران: ٧.
1 / 5
القول الأول: المحكم ما عرف معناه والمراد منه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كوقت قيام الساعة، وخروج المسيح الدجال، ونزول عيسى ﵇ وبعضهم يدخل فيه الحروف المقطعة في أوائل السور (^١).
وهذا مذهب جابر بن عبد الله ﵁ ومقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما، كما حكاه القرطبي واستحسنه (^٢)، وهو اختيار أبي جعفر الطبري (^٣).
القول الثاني: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أكثر من وجه: قال محمد بن جعفر بن الزبير: " المحكمات هي التي فيها حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد"، ونقل هذا المذهب عن مجاهد وابن اسحاق، واستحسنه ابن عطيه (^٤)، وهو المنقول عن الشافعي، وأحمد في رواية، وعزاه ابن الجوزي إلى الشافعي وابن الأنباري (^٥).
وقال ابن الوزير: " فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي، وما عداه متشابه" (^٦).
القول الثالث: المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه ما احتاج إلى بيان (^٧): وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، لأنه قال في كتاب: الرد على الزنادقة والجهمية (^٨): " بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن" ثم ذكر آيات وأخذ يفسرها ويبينها. وقال الإمام أحمد -في موضع-: " المحكم الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا" (^٩).
_________
(^١) انظر: زاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ص ١/ ٣٥٠ - ٣٥١، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة. ومعالم التنزيل لأبي محمد الحسين الفراء البغوي تحقيق محمد النمر وأخرون ص ١/ ٣٢٢، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى. وشرح الكوكب المنير لابن النجار تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد ص ٢/ ١٤٢، طبعة جامعة الملك عبدالعزيز ١٤٠٠ هـ، ومجموع الفتاوى جمع عبدالرحمن بن قاسم ١٧/ ٤١٩ طبعة عالم الكتب، الرياض عام ١٤١٢.
(^٢) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ص ٥/ ١٧.
(^٣) جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير ابن جرير الطبري لمحمد بن جرير الطبري ضبط وتعليق محمود شاكر ص ٣/ ٢٠٥، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى.
(^٤) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢٠٤، وتفسير البغوي ١/ ٣٢٣، وتفسير القرطبي ٥/ ١٨، وشرح الكوكب المنير ٢/ ١٤٢.
(^٥) انظر: زاد المسير ١/ ٣٥١.
(^٦) إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد لأبي عبدالله محمد اليماني المشهور بابن الوزير ص ٨٨، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، .
(^٧) انظر: العدة في أصول الفقه لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء تحقيق أحمد المباركي ٢/ ٦٨٤ - ٦٨٥، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى. والمسودة في أصول الفقه جمعها شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد الحنبلي، تحقيق وتعليق محمد محي الدين عبدالحميد ص: ١٦١، دار الكتاب العربي، بيروت، وشرح الكوكب المنير ٢/ ١٤٢، وزاد المسير لابن الجوزي ١/ ٣٥٠ - ٣٥١، وتفسير البغوي ١/ ٣٢٣، ومجموع الفتاوى ١٧/ ٤٢٢.
(^٨) ص: ٥٣ ضمن عقائد السلف لنشار، طبعة منشاة المعارف بالاسكندرية، عام ١٩٧١ ..
(^٩) المسودة ص: ١٦١، وانظر: العدة ٢/ ٦٨٥.
1 / 6
القول الرابع: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك والربيع والسدي (^١)، ويميل شيخ الإسلام ابن تيمية (^٢) إلى أن النسخ هنا هو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] (^٣)، فالمحكم هو جميع القرآن، والمتشابه هو ما يلقيه الشيطان ثم ينسخه الله ويزيله.
القول الخامس: روى الخطيب البغدادي بسنده إلى ابن عباس ﵄ أنه قال في قوله تعالى: ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] (^٤) "هي التي في الأنعام ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)﴾ [الأنعام: ١٥١ - ١٥٣] (^٥)، ثلاث آيات، والمتشابهات الحروف المتقطعة" (^٦). وروي عن ابن عباس ومقاتل بن حيان أن المتشابه هو الحروف المقطعة من غير إشارة إلى معنى المحكم (^٧)، والظاهر أن المحكم في هذه الرواية هو ما سوى الحروف المقطعة (^٨).
والشوكاني ﵀ لا يصف هذه الأقوال المتقدمة في تعريف المحكم والمتشابه بالاختلاف، وذلك أن أهل كل قول قد عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها، ويظهر ذلك عند التأمل في الأقوال، ولهذا يرى أن التعريف الذي يجمعها هو أن يقال: " المحكم الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره" (^٩).
_________
(^١) انظر: الفقيه والمتفقه لأحمد بن علي الخطيب البغدادي، تحقيق عادل الغرازي ١/ ٢٠٠، الطبعة الأولى، دار ابن الجوزي، الدمام، وتفسير الطبري ٣/ ٢٠٤، وزاد المسير ١/ ٣٥٠ - ٣٥١، وتفسير القرطبي ٥/ ١٨، وإيثار الحق ص ٨٨.
(^٢) انظر: المسودة ص: ١٦٢.
(^٣) سورة الحج: ٥٢.
(^٤) سورة آل عمران: ٧.
(^٥) سورة الأنعام: ١٥١ - ١٥٣.
(^٦) الفقيه والمتفقه ١/ ٢٠١، وانظر: تفسير البغوي ١/ ٣٢٣.
(^٧) انظر: تفسير ابن كثير ١/ ٣٥٣، وزاد المسير ١/ ٣٥١، وتفسير البغوي ١/ ٣٢٣، ومجموع الفتاوى ١٧/ ٤٢٠، وإيثار الحق ص ٨٨.
(^٨) انظر: تفسير القرطبي ٥/ ١٨.
(^٩) انظر: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي الشوكاني تحقيق عبدالرحمن عميرة ١/ ٥٢٧، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثانية. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة عثمان بن علي حسن ص ٢/ ٤٧٣ - ٤٧٧، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة السابعة.
1 / 7
المبحث الأول: الإحكام والتشابه في القرآن
وصف الله ﷾ القرآن كله بأنه محكم، كما وصفه بأنه كله متشابه، فقال تعالى في وصف القرآن بالإحكام: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١] (^١)، وقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)﴾ [يونس: ١] (^٢).
ومعنى كونه محكمًا، أي: في "اطراده في البلاغة، وانتظامه في سلك الفصاحة، واستواء أجزاء كلماته في أداء المعنى من غير حشو يستغنى عنه، أو نقصان يخل به، واختصار القول الطويل الدال على المعنى الكثير" (^٣).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان" (^٤).
والمقصود أن معنى كون القرآن كله محكمًا، أي: أن ألفاظه ومعانيه متقنة، وأن المعاني المرادة بألفاظه ظاهرة بينة لا خلل فيها ولا اختلاف" (^٥)، فالقرآن يصدق بعضه بعضا.
وكما وصف الله تعالى القرآن كله بالإحكام، فقد وصفه بأنه كله متشابه، وذلك في قوله سبحانه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣] (^٦).
ومعنى كونه متشابهًا: أي يشبه بعضه بعضًا في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة، ويصدق بعضه بعضًا (^٧).
_________
(^١) سورة هود: ١
(^٢) سورة يونس: ١.
(^٣) قانون التأويل أبو بكر محمد بن العربي تحقيق محمد السليماني ص ٣٧٣، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية.
(^٤) الرسالة التدمرية ٣/ ٦٠ ضمن مجموع الفتاوى.
(^٥) انظر: التفسير الكبير لفخر الدين الرازي ٧/ ١٦٧، المطبعة البهية، الطبعة الأولى. تأسيس التقديس ص ٢٣٠، البرهان في علوم القرآن للزركشي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ٢/ ٦٨، طبعة المكتبة العصرية، بيروت، عام ١٤١٩. الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ٣/ ٣، طبعة المكتبة العصرية، بيروت، عام ١٤١٨، أقاويل الثقات ص ٤٦ - ٤٨، فتح القدير ١/ ٥٣١.
(^٦) سورة الزمر: ٢٣.
(^٧) انظر: التفسير الكبير للرازي ٧/ ١٦٧، تأسيس التقديس ص ٢٣٠، الإتقان للسيوطي ٣/ ٣، أقاويل الثقات ص ٤٩، فتح القدير ١/ ٥٣١.
1 / 8
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " فالمتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضًا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ، وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك ... وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ.
فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضًا، لا يناقض بعضه بعضًا" (^١).
وكما وصف الله تعالى القرآن بأنه كله محكم، وكله متشابه على المعاني السابقة، فقد وصف بعضه بالإحكام وبعضه بالتشابه، وذلك في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] (^٢).
وهذا يسمى الإحكام الخاص والتشابه الخاص.
"والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك. والإحكام - الخاص- هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر" (^٣).
وهذا الإحكام الخاص والتشابه الخاص هو الذي وقع الخلاف في تعيين المراد به على أقوال كثيرة، وإن كان بعضها قريبًا من بعض، وداخلًا في بعض، وعامتها يرجع إلى اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، أي: إن بعضهم قد يذكر نوعًا من المتشابه، ويذكر الآخر نوعًا ثان، وليس بين القولين تضاد في نفس الأمر (^٤).
والحق أن القرآن كله محكم باعتبار، كما أن كله متشابه باعتبار آخر، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث.
فمعنى كونه محكمًا، أي أنه في غاية الإحكام، وقوة الاتساق، كما أنه بالغ في الحكمة الغاية القصوى، إذ إن أخباره كلها حق وصدق، لا تناقض فيها ولا اختلاف.
كما أن أحكامه كلها عدل، وكل ما أمر به فهو خير وهدى، وكل ما نهى عنه فهو شر وضلال.
ومعنى كونه متشابهًا: أي في الحسن، والصدق، والهدى، والنفع.
وأما وصف بعضه بالإحكام والبعض الآخر بالتشابه فالمراد بالإحكام والتشابه هنا ما تقرر في المعنى الاصطلاحي لهذين اللفظين من الإحكام الخاص والتشابه الخاص (^٥).
_________
(^١) الرسالة التدمرية ٣/ ٦١ - ٦٢، ضمن مجموع الفتاوى.
(^٢) سورة آل عمران: ٧.
(^٣) الرسالة التدمرية ٣/ ٦٢ ضمن مجموع الفتاوى.
(^٤) موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ١/ ٣٦٩ - ٣٧١.
(^٥) قواعد التفسير ص ٢/ ٦٦١.
1 / 9
المبحث الثاني: الحكمة من وجود المتشابه في القرآن
من خلال افتراق الناس في موقفهم من المتشابه، إذ كان منهم راسخون في العلم يؤمنون به، ويتأولونه برده إلى المحكم أو برد علم حقيقته إلى العالم به وحده وهو الله -جل وعلا- إقامة منهم لمحكمات الوحي علمًا وإيمانًا وعملًا، ومنهم أهل زيع تركوا المحكم الواضح الذي هو معظم الوحي، واتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على غير الجادة، من خلال هذا ندرك الحكمة من إنزال المتشابه في القرآن، وهي الابتلاء على قوة الإيمان والتسليم للوحي، وعلى بذل الجهد، واستفراغ الوسع بالاجتهاد في معرفة مراد الله ورسوله ﷺ
يقول الشاطبي ﵀ في بيان هذه الحكمة البالغة: " فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم، ويقع الزائغون في إتباع أهوائهم .. فلما جاءتهم -أي الراسخين- مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] (^١)، (^٢).
قال ابن كثير ﵀: " فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس" (^٣).
وقال الشيخ عبدالرحمن المعلمي ﵀: " وفي بقاء المنسوخ بعيدًا عن ناسخه، والإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاء من الله لعباده، فيكون عليهم مشقة وعناء في استنباط الأحكام؛ لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب والسنة واستحضارها، وفي ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه وكيفيته مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة ابتلاء لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ (^٤).
قال ابن قتيبة ﵀: " وأما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد بالقرآن لعباده الهدى والتبيان؟
فالجواب عنه: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللقن (^٥)، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرًا مكشوفًا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر.
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجل، ومنه ما يدق، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه، ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان فن من العلوم شيئًا واحدًا: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفي ولا جلي" (^٦).
_________
(^١) سورة آل عمران: ٧.
(^٢) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي تحقيق مشهور حسن سلمان ص ٥/ ٧١، ٧٦، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى.
(^٣) تفسير القرآن العظيم ص ١/ ٣٥٢.
(^٤) القائد إلى تصحيح العقائد ١/ ١٨٩، وانظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ١/ ٣٨٦.
(^٥) أي سريع الفهم، لسان العرب ص ٥/ ٤٠٦٤.
(^٦) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، تحقيق السيد أحمد صقر ص ٨٦ - ٨٧، طبعة دار التراث، القاهرة.
1 / 10
المبحث الثالث: أنواع المتشابه
من خلال ما سبق في تعريف المتشابه (^١)، يتبين أن المتشابه نوعان (^٢).
النوع الأول: متشابه حقيقي، لا سبيل إلى إدراك حقيقته وكنهه، كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه، فهذا لا يتعاطى علمه أحد لا من الصحابة ولا من بعدهم، فمن قال من العلماء: إن الراسخين لا يعلمون المتشابه، فإنما مراده هذا النوع.
لكن يغلط من يقول (^٣): إن المتشابه لا يفهم معناه أحد، بل هذا المتشابه مفهوم من جهة المعنى ولغة التخاطب، فنحن نفهم الخطاب بالروح والساعة، وما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة من أنواع النعيم، كل هذا نفهمه بمقتضى لغة التخاطب، وإن كان لا ندرك حقيقته التي هو عليها، كما في الحديث: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (^٤)، فأحوال الآخرة ونحوها من الأسماء والصفات، والوعد والوعيد، ومسائل القدر، كل هذا محكم من جهة المعنى ووضوح الخطاب به، لكنه متشابه من جهة حقيقته وكيفيته، فالأول يعرفه كل من يعرف لغة العرب وعادتها في الكلام، والثاني لا يعلمه إلا الله تعالى. وهذا النوع من المتشابه غالبًا ما يستدل له بآية آل عمران، وأن الوقف عند لفظ الجلالة.
النوع الثاني: متشابه إضافي، لأنه يرجع إلى الناظر لا إلى الأمر في نفسه، وهذا الاشتباه له أسباب منها:
١ - تقصير الناظر في النظر والبحث.
٢ - اتباعه للهوى وابتغاؤه الفتنة.
وإذا تؤمل هذا النوع وجد أن المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخل فيه (^٥).
_________
(^١) ص ٦.
(^٢) انظر: تفسير القرطبي ص ٥/ ٢٦، ومجموع الفتاوى ص ١٧/ ٣٧٢ - ٣٧٣، ٣٨٠، والموافقات ص ٣/ ٩١ - ٩٣، والاعتصام لإبراهيم بن موسى الشاطبي تحقيق أحمد عبدالشافي ص ١/ ١٦١، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى. وإيثار الحق ص: ٩٠ - ٩٩.
(^٣) انظر: الموافقات ص ٣/ ٩١
(^٤) صحيح البخاري: كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: ﴿يريدون أن يبدلوا كلام الله﴾، ص ١٤٢٩، حديث رقم ٧٤٩٨، اعتنى به أبو صهيب الكرمي، طبعة بيت الأفكار الدولية، الرياض، عام ١٤١٩.
(^٥) انظر: الموافقات ص ٣/ ٨٦.
1 / 11
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والمنسوخ يدخل فيه - في اصطلاح السلف العام- كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد" (^١).
فهذا النوع من المتشابه نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، كما أن الملائكة يعلمون من أخبار الغيب ما يكون متشابها عند بني آدم (^٢).
فاللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، والثاني النص -كما في اصطلاح الأصوليين- والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل والثاني المؤول؛ فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه (^٣). وهذا إنما يعرف بيانه الراسخون في العلم، ولهذا من استدل من السلف بآية آل عمران، وجعل الوقف عند "والراسخون في العلم" على أن الراسخين يعلمون المتشابه فإنما مراده هذا النوع.
وقد ذكر المفسرون في أسباب نزول آية آل عمران (^٤): قدوم وفد من نصارى نجران، وأنهم ناظروا النبي ﷺ، واحتجوا عليه بما في القرآن الكريم من لفظ (إنّا) و(نحن) ونحو ذلك، على تعدد الآلهة، وهو التثليث عندهم، وكذلك بنحو قوله تعالى في المسيح ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: ١٧١] (^٥)، فاستدلوا بـ (كلمته) و(روح منه) على عقيدتهم في النبوة، وأن عيسى فيه جزء إلهي.
فلفظ (إنّا) و(نحن) يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم نفسه، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة: فهذه الألفاظ قد يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، وكذلك الملك - من ملوك الدنيا- يقول: إنّا -ونحن- وفعلنا كذا، وقلنا كذا، ومعلوم أنه وما ملك مخلوق لله مربوب له، وهو سبحانه أحق من يقول: إنّا، ونحن بهذا الاعتبار، فإن ما سواه ليس له ملك تام ولا أمر مطاع طاعة تامة، فالله تعالى يقول: إنّا ونحن، والملك من ملوك الدنيا يقول: إنّا ونحن، وهذا متشابه من هذه الجهة، لكن يعلم أن ما يختص الله به من تمام الملك والخلق والأمر لا يشركه فيه أحد من خلقه، ولهذا قال تعالى: ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ﴾ [الأعراف: ٥٤] (^٦) وقال: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ [الإخلاص: ١] (^٧) فالواجب حمل تلك الألفاظ المشتبهات على هذه الآيات المحكمات (^٨).
_________
(^١) مجموع الفتاوى ص ١٣/ ٢٧٢ - ٢٧٣.
(^٢) المرجع السابق ١٧/ ٣٨٠.
(^٣) انظر: الإتقان للسيوطي ٣/ ٨.
(^٤) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢٠٥، وتفسير البغوي ١/ ٣٢٣.
(^٥) سورة النساء: ١٧١.
(^٦) سورة الأعراف: ٥٤.
(^٧) سورة الإخلاص: ١.
(^٨) مجموع الفتاوى ص ١٣/ ١٤٥، ٢٧٥، ٢٧٦، ١٧/ ٣٧٨، وانظر: منهج الإستدلال على مسائل الاعتقاد ص ٢/ ٤٨٥ - ٤٨٨.
1 / 12
المبحث الرابع: موقف المسلم من المتشابه
تقدم أن المتشابه نوعان: حقيقي وهذا لا يعمل حقيقته إلا الله، وإضافي وهذا يعلمه الراسخون في العلم. ويجب على المسلم أن يؤمن بالكتاب كله محكمه ومتشابهه، أما المتشابه الحقيقي فيؤمن به ويعلم معناه وأما حقيقته فهي إلى الله تعالى ولا يخوض في ابتغاء تأويله، فإن الله تعالى حجب علم تأويله عن الأنام، والخوض فيه من ذرائع الفتنة والحيرة والاضطراب، ولهذا ذكر في أسباب نزول آية آل عمران أن اليهود رامت معرفة أجل أمة محمد ﷺ بالحروف المقطعة في أول سورة آل عمران وذلك عن طريق حساب الجمل، فنزلت بعدها سور أخرى مصدرة بحروف أخر نحو: (طسم - المر - كهيعص) وغيرها، فاضطراب عندهم الحساب، حتى قالوا: لقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله، ونحن ممن لا يؤمن بهذا، فأنزل الله الآية (^١).
أما المتشابه الإضافي فالواجب الإيمان بالنص في الجملة حتى يتبين معناه ويتضح مدلوله، وذلك بالتدبر فيه ومتابعة النظر، أو برده إلى المحكمات من النصوص، فإن النصوص يفسر بعضها بعضًا، أو برده إلى أهل العلم والإيمان كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] (^٢)، وكما قال النبي ﷺ: " اعملوا بكتاب الله ولا تكذبوا بشيء منه، فما اشتبه عليكم منه فسئلوا عنه أهل العلم يخبرونكم .. " (^٣)، وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)﴾ [النحل: ٤٣] (^٤)، وقوله ﷺ: " ... إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" (^٥).
_________
(^١) انظر تفسير البغوي ص ١/ ٣٢٣، وتفسير الطبري ص ٣/ ٢٠٥، وتفسير القرطبي ص ٥/ ٢٤.
(^٢) سورة النساء: ٨٣.
(^٣) الفقيه والمتفقه ص ١/ ٢١١، ونحوه عند الحاكم في المستدرك تحقيق عبدالسلام علوش ص ٤/ ٧٥٦ رقم الحديث ٦٥٣٠ كتاب معرفة الصحابة، وسكت عنه الذهبي. طبعة دار المعرفة، بيروت.
(^٤) سورة النحل: ٤٣.
(^٥) مسند الإمام أحمد ١٠/ ١٧٤ حديث: ٦٧٠٢، وصححه الشيخ أحمد شاكر، ص ١٠/ ٢٢٨، طبعة دار المعارف. عام ١٣٩٢. الاتقان للسيوطي ص ٣/ ٤.
1 / 13
قال ابن عباس ﵄: " يؤمن بالمحكم ويدين به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به، وهو من عند الله كله" (^١). وعن عائشة ﵂: " كان رسخوهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه" (^٢). وعن الحسن في قوله تعالى: ﴿(١٢٠) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة: ١٢١] (^٣) قال: " يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه" (^٤).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد قال كثير من السلف: إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به" (^٥).
فمثلًا من اشتبهت عليه بعض الآيات الدالة على قدرة الله على كل شيء، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فظن به -سبحانه- خلاف الحكمة، وأن هدايته وإضلاله جزاف لغير سبب، كشفت هذا الاشتباه، وجلته الآيات الأخرى الدالة على أن هدايته لها أسباب، يفعلها العبد ويتصف بها كما في قوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: ١٦] (^٦)، وأن إضلاله لعبده له أسباب في العبد، وهو توليه الشيطان كما قال تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٣٠] (^٧)، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] (^٨). وهكذا في جميع الآيات.
_________
(^١) تفسير الطبري ٣/ ٢١٨، الإتقان للسيوطي ٣/ ٧.
(^٢) تفسير الطبري ٣/ ٢١٤، الإتقان للسيوطي ٣/ ٤.
(^٣) سورة البقرة الآتية: ١٢١.
(^٤) تفسير الطبري ٣/ ٢١٤. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة ٢/ ٤٩١ - ٤٩٥.
(^٥) مجموع الفتاوى ص ١٧/ ٣٨٦.
(^٦) سورة المائدة الآية: ١٦.
(^٧) سورة الأعراف: ٣٠.
(^٨) سورة الصف الآية: ٥.
1 / 14
المبحث الخامس: حكم تأويل المتشابه
اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في تأويل المتشابه، هل هو مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدًا عليه، أو هو مما يمكن أهل العلم معرفته؟
والخلاف مبني على مسألة الوقف في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)﴾ [آل عمران: ٧] (^١).
فمن قال إن تأويل المتشابه مما استأثر الله بعلمه وقف على قوله تعالى: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾، وجعل الواو في قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] للاستئناف والابتداء، فـ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ مبتدأ، و"يقولون" خبره.
ومن قال إن تأويل المتشابه مما يمكن أهل العلم معرفته، لم يقف بل جعل الواو في قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ للعطف، و﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ معطوف على لفظ الجلالة، وموضع ﴿يَقُولُونَ﴾ نصب على الحال (^٢).
القول الأول:
إن تأويل المتشابه مما استأثر الله بعلمه، ولم يطلع أحدًا من خلقه عليه، فلا يمكن أحدًا معرفته، بل الواجب الإيمان به دون الإحاطة بتأويله.
وهذا قول ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم، وهو مذهب الجمهور (^٣).
وقد احتج أصحاب هذا القول بحجج منها:
ما جاء عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] (^٤)، (^٥).
_________
(^١) سورة آل عمران: ٧.
(^٢) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢١٤، تفسير ابن كثير ١/ ٣٥٤، أضوءا البيان ١/ ٢٣٥.
(^٣) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢٠٥، ٢١٥، العدة للقاضي أبي يعلي ٢/ ٦٩٠، إبطال التأويلات لأخبار الصفات لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء تحقيق محمد النجدي ص ١/ ٥٩، دار إيلاف، الكويت، الطبعة الأولى. معالم التنزيل للبغوي ١/ ٣٢٣، زاد المسير ١/ ٣٥٤، تفسير القرطبي ٥/ ٢٥، تفسير ابن كثير ١ - ٣٥٤، فتح القدير للشوكاني ١/ ٥٢٧.
(^٤) سورة آل عمران: ٧.
(^٥) رواه الحاكم ٣/ ٥ رقم الحديث ٣١٩٧، قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه ابن جرير ٣/ ٢١٦.
انظر: تفسير ابن كثير ١/ ٣٥٥.
1 / 15
قال السيوطي تعليقًا على هذا: " فهذا يدل على أن الواو للاستئناف، لأن هذه الرواية إن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرًا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه" (^١).
وفي قراءة ابن مسعود: "وإن حقيقة تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به" (^٢).
وعن عائشة ﵁ في قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] قالت: كانت رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله" (^٣).
وعن عروة، قال: " إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا" (^٤).
وعن أبي نهيك الأسدي، أنه قال في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧]: إنكم تصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا" (^٥).
ثم إن الآية دلت على ذم من يطلب تأويل المتشابه، ومدح من يكل علمه إلى الله، ويقول آمنا به كل من عند ربنا، فيفوض علمه إلى الله ويسلم له (^٦).
ولو كان قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] معطوفًا على قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾، لقال: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾، لأن تقدير الكلام: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون .. ولو كانت الواو للعطف لكان قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] راجعًا إلى الله وإلى الراسخين في العلم وفساد هذا وبطلانه ظاهر (^٧).
_________
(^١) الإتقان ٣/ ٦.
(^٢) المصاحف لعبدالله بن أبي دواد السجستاني تصحيح آثر جفري ص ٦٩، مكتبة المثنى، بغداد، الطبعة الأولى.
(^٣) تفسير الطبري ٣/ ٢١٤.
(^٤) المرجع السباق ٣/ ٢١٤.
(^٥) المرجع السابق ٣/ ٢١٤.
(^٦) انظر: إبطال التأويلات ص ١/ ٦٥، ذم التأويل لموفق الدين ابن قدامه المقدسي، تحقيق بدر البدر ص ٣٧ - ٣٨، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه لموفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة تحقيق عبدالكريم النملة ص ١/ ٢٧٩، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة السابعة. أساس التقديس لفخر الدين محمد الرازي تحقيق أحمد حجازي السقا ص ٢٣٦ - ٢٣٧، مكتبة الكليات الأزهرية، شرح الكوكب الصغير ٢/ ١٥٤، ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان لأبي عبدالله محمد بن المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير تصحيح جماعة من العلماء ص ١٣٥ - ١٣٧، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى.
(^٧) انظر: ذم التأويل لابن قدامه ص ٣٨، أساس التقديس ص ٢٣٧ - ٢٣٨، شرح الكوكب المنير ٢/ ١٥٤، ١٥٥.
1 / 16
ومن الأدلة أيضًا على هذا القول ما ورد من الأحاديث والآثار في الإيمان بالمتشابه وعدم العلم به، وذم متبعيه، كقولهصلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" (^١).
وقوله: "واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا" (^٢).
كما استدلوا بإجماع الصحابة ﵃ على ترك تأويل المتشابه (^٣).
هذه أبرز الحجج التي استدل بها القائلون بأن تأويل المتشابه مما استأثر الله بعلمه (^٤)، وقد قال ابن قدامه بعد ذكره جملة من هذه الحجج: "فثبت بما ذكرناه من الوجوه أن تأويل المتشابه لا يعمله إلا الله تعالى، وأن متبعه من أهل الزيغ، وأنه محرم على كل أحد" (^٥).
وقد ذكر ابن الوزير اثنين وعشرين دليلًا على هذا القول (^٦).
القول الثاني:
أن تأويل المتشابه مما يعلمه الراسخون في العلم ويدركونه.
ومعنى هذا القول مروي عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهم، ورجحه النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية (^٧).
وقد احتج أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
ما جاء عن ابن عباس أنه قال: "أنا ممن يعلم تأويله" (^٨).
_________
(^١) سنن أبي داود: كتاب السنة باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن، رقم ٣٩٨٢.
(^٢) رواه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تلخيصه ٣١/ ٥ حديث رقم ٣١٩، ورواه أيضًا الطحاوي في مشكل الآثار ٤/ ١٨٤ - ١٨٥، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند، عام ١٣٣٣.
(^٣) انظر: ذم التأويل ص ٤٠، أساس التقديس ص ٢٣٩.
(^٤) انظر ترجيح أساليب القرآن ص ١٢٩ - ١٤٤.
(^٥) ذم التأويل ص ٣٩.
(^٦) انظر: ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان: ١٢١.
(^٧) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢١٥، تأويل مشكل القرآن ص ٩٨ - ١٠١، معالم التنزيل للبغوي ١/ ٣٢٤، متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ص ١٤، الكشاف للزمخشري ١/ ٤١٣، زاد المسير ١/ ٣٥٤، تفسير القرطبي ٥/ ٢٧، شرح صحيح مسلم للنووي ١٦/ ٢١٨، ط دار الكتاب العربي، بيروت، عام ١٤٠٧ تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٤٠٠، ضمن مجموع الفتاوى، تفسير ابن كثير ٢/ ٩، شرح الكوكب المنير ٢/ ١٥٣، فتح القدير للشوكاني ١/ ٥٢٧.
(^٨) تفسير الطبري ٣/ ٢١٥.
1 / 17
وعن مجاهد في قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] يعلمون تأويله ويقولون ﴿آمَنَّا بِهِ﴾، وروى مثله عن الربيع (^١).
ثم إن الله أنزل كتابه تبيانًا لكل شيء، ولو كان فيه ما لا يعلم لم يكن فيه بيان المشكل (^٢).
وقالوا أيضا لو لم يكن المتشابه معلومًا للراسخين في العلم لم يكن لهم مزية ولا فضيلة على العامة، لأن الجميع يقولون آمنا به (^٣).
وقالوا أيضًا لو كان المتشابه لا يُعلم للزم عليه أن يتعبد الله خلقه بالشيء المجهول، ويخاطب عباده بما لا يفهمون، كما أنه يخالف وصفه تعالى للقرآن بأنه تبيان لكل شيء (^٤).
قال ابن قتيبة ﵀: " ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئًا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل على معنى أراده" (^٥).
وقال النووي بعد أن رجح هذا القول: " لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته" (^٦).
ثم إن آيات القرآن كلها قد فسرت ألفاظها، وتكلم الصحابة والتابعون في معانيها، ولم يتركوا شيئًا منها، وإن توقف بعضهم في شيء من ذلك، فإن الآخر يفسره ويبينه (^٧).
وقد أجابوا على ما أورده أصحاب القول الأول من حجج بأن قالوا: أما قراءة ابن مسعود التي ذكرتم فغير صحيحة، وأما أثر عائشة فإنما الثابت أوله، وهو قولها: " كان رسخوهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه"، وأما آخر الأثر وهو قولها: " ولم يعلموا تأويله" فغير ثابت.
_________
(^١) تفسير الطبري ٣/ ٢١٥.
(^٢) انظر: العدة للقاضي أبي يعلى ٢/ ٦٩١.
(^٣) انظر: العدة للقاضي أبي يعلى ٢/ ٦٩٢، تأويل مشكل القرآن ص ١٠٠.
(^٤) انظر: العدة للقاضي أبي يعلى ٢/ ٦٩٢، ترجيح أساليب القرآن ص ١٢٦، أساس التقديس ص ٢٤٠.
(^٥) تأويل مشكل القرآن ص ٩٨.
(^٦) شرح مسلم للنووي ١٦/ ٢١٨.
(^٧) انظر: تأويل مشكل القرآن ص ١٠٠، إبطال التأويلات ص ١/ ٦٦، تفسير سورة الإخلاص لشيخ الإسلام ١٧/ ٣٩٥ - ٣٩٧، ضمن مجموع الفتاوى.
1 / 18
كما عارضوا قراءة ابن عباس بما ورد عنه من قوله: " أنا ممن يعلم تأويله"، وبدعاء الرسول ﷺ له في قوله: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" (^١).
وقد قال مجاهد: " عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها" (^٢).
كما أجابوا على ما ورد من نصوص في ذم من يتبع المتشابه، كما دلت عليه الآية والأحاديث والآثار، بأن قالوا:
إن الذم "وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن، فلا يطلبون المتشابه إلا لإفساد القلوب، وهي فتنتها به، ويطلبون تأويله، وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء، بل هذا لأجل الفتنة.
وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبه، وهو عالم بالمحكم، متبع له، مؤمن بالمتشابه، لا يقصد فتنة، فهذا لم يذمه الله ... " (^٣).
وأجابوا عن ما ألزمهم به أصحاب القول الأول من عود الضمير في (يقولون) في قوله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] إلى الله، وإلى الراسخين في العلم، بأن قالوا: إن هذا غير لازم"؛ بل إنما يعود الضمير إلى الراسخين في العلم فقط، وهذا أمر سائغ في اللغة، كما قال تعالى: ﴿رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾ [الفجر: ٢٢] (^٤)، فقوله: (صفًا صفًا) حال من المعطوف، وهو الملك، دون المعطوف عليه.
كما أجابوا عن حكايتهم إجماع الصحابة على ترك التأويل بأن قالوا: إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعمله الراسخون (^٥).
_________
(^١) رواه أحمد ٤/ ١٢٧ رقم الحديث ٢٣٩٧، والحاكم في كتاب معرفة الصحابة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تلخيصه ٤/ ٦٨٨ رقم الحديث ٦٣٣٤، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند ٤/ ١٢٧.
(^٢) رواه بمعناه الطبري في تفسيره ٣/ ٩٠. انظر: تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٣٩٥، ٤٠٧ - ٤٠٩، ضمن مجموع الفتاوى.
(^٣) تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٣٩٣ - ٣٩٤، ضمن مجموع الفتاوى.
(^٤) سورة الفجر: ٢٢.
(^٥) انظر: تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٤٠٦، ٤٠٧، ضمن مجموع الفتاوى.
1 / 19
وقد رد أصحاب القول الأول - القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله بعلمه، وأن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله- على ما أورده أصحاب القول الثاني من أنه يلزم على القول بأن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه ألا يكون بينهم وبين الجهال فرق، بأن هذا غير لازم، إذ إن لهم مزية بمعرفة غيره من الأحكام، كما أن لهم فضيلة على من لم يؤمن (^١).
فرسخوهم في العلم هو الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم، ويقولون فيما لا يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]، بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله (^٢).
وأجابوا عن قولهم بأن هذا يفضي إلى التعبد بالمجهول، وينافي وصف القرآن بكونه تبيانًا لكل شيء، بالقول بأن هذا غير ممتنع، فقد تعبدنا الله بالإيمان بالملائكة -مثلًا- ونحن لا نعمل حقيقتهم، كما أن هذا لا ينافي وصف القرآن بأنه تبيان لكل شيء، فإن هذا مخصوص، كما قال تعالى عن بلقيس: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] (^٣)، ولم تؤت شيئًا مما يختص به الرجال، ولم تؤت شيئًا مما اختص به سليمان، وقوله في الريح: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٥] (^٤)، ولم تدمر السماوات والأرض (^٥).
والخلاصة في ذلك:
يقول شيخ الإسلام ﵀: "وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة، لم ينزل به خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة، ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء" (^٦).
_________
(^١) انظر: العدة للقاضي أبي يعلى ٢/ ٦٩٣، إبطال التأويلات ص ١/ ٦٩.
(^٢) انظر: أضواء البيان للشنقيطي ١/ ٢٣٥.
(^٣) سورة النمل: ٢٣.
(^٤) سورة الأحقاف: ٢٥.
(^٥) انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة ١/ ٣٩٠ - ٤٠١.
(^٦) تفسير سورة الإخلاص ١٧/ ٣٩٧، ٣٩٧، ضمن مجموع الفتاوى.
1 / 20