Al-Muqaddima fi al-Uṣūl - Ibn al-Qassār - Ed. al-Sulaymani
المقدمة في الأصول - ابن القصار - ت السليماني
Publisher
دار الغرب الإسلامي
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٩٩٦ م
Genres
المقدمة في الأصول
للإمام أبي الحسين علي بن عمر بن القصار المالكي
المتوفى سنة ٣٩٧
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال القاضي الجليل أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المالكي البغدادي ﵀.
سألتموني - أرشدكم الله - أن اجمع لكم ما وقع إلي من الأدلة في مسائل الخلاف بين مالك بن أنس ﵀ وبين من خالفه من فقهاء الأمصار - رحمة الله عليهم - وأن أبين ما علمته من الحجج في ذلك.
وأنا أذكر لكم جملة من ذلك بمشيئة الله وعونه، لتعلموا أن مالكا ﵀ كان موفقا في مذهبه، متبعا لكتاب الله وسنة نبيه ﷺ
1 / 3
وإجماع الأمة والنظر الصحيح، وأن الله خصه بحسن الاختيار ولطيف الحكمة، وجودة الاعتبار، والله تعالى يوفقني وإياكم لما يقرب إليه، ويزلف لديه.
وقد رأيت أن أقدم لكم بين يدي المسائل جملة من الأصول التي وقفت عليها من مذهبه، وما يليق به مذهبه، وأن أذكر لكل أصل نكتة ليجمع لكم الأمران جميعا، أعني: علم أصوله ومسائل الخلاف من فروعه، إن شاء الله تعالى.
1 / 4
باب الكلام في اختلاف وجوه الدلائل
اعلم أن للعلوم طرقا منها جلي وخفي، وذلك أن الله ﵎ لما أراد أن يمتحن عباده وأن يبتليهم فرق بين طرق العلم وجعل منها ظاهرا جليا، وباطنا خفيا، ليرفع الذين أويوا العلم كما قال ﷿: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١].
والدليل على أن ذلك كذلك: هو ان الدلائل لو كانت كلها جلية ظاهرة، لم يقع التنازع وارتفع الخلاف، ولم يحتج إلى تدبر، ولا اعتبار ولا تفكر، ولبطل الابتلاء ولم يحصل الامتحان، ولا كان للشبهة
1 / 5
مدخل ولا وقع شك ولا حسبان ولا ظن، ولا وجد جهول؛ لأن العلم كان يكون طبعا، وهذا فاسد، فبطل أن تكون العلوم كلها جلية.
ولو كانت كلها خفية لم يتوصلغلى معرفة شيء منها، إذ الخفي لا يعلم بنفسه؛ لأنه لو علم بنفسه لكان جليا، وهذا فاسد أيضا، فبطل أن تكون كلها خفية.
وقد قال الله ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ... إلى قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [أل عمران: ٧].
وقال ﷿: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء " ٨٣].
وإذا بطل أن يكون العلم كله جليا، وبطل أن يكون كله خفيا، ثبت أن منه جليا ومنه خفيا، وبالله التوفيق.
1 / 6
باب الكلام في وجوب النظر
وجوب النظر والاستدلال هو مذهب مالك ﵀ في سائر أهل العلم، لأنه قد استدل في مسائل باستدلالات، واحتج بقيالسات، ومن الناس من ينفيه.
والدليل على وجوبه أنه إذا ثبت أن في الدلائل جليا
1 / 7
وخفيا، فلا بد من النظر؛ لأن في تركه امتناعا من الوصول إلى معرفة الخفي منها، وذلك غير جائز، فدل على وجوبه.
وقد دل الله تعالى على وجوب النظر والاستدلال والتفكر ولاعتبار في آيات كثيرة من كتابه فقال ﷿: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧].
وقال ﷿: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الأنبياء: ٤٤]
وقال ﵎: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾. [غافر: ٨١].
وقال ﷿: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾. [سبأ: ٤٦].
وقال ﷿ محتجا على من أنكر البعث والإعادة: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس:٧٧ - ٨٠].
ومثال ذلك في آيات كثيرة، وفي هذا وجوب النظر وصحته، والله أعلم.
1 / 8
باب الكلام في إبطال التقليد من العالم للعالم
ومذهب مالك ت ﵀ إبطال التقليد من العالم للعالم، وهو قول جماعة من الفقهاء، وأجازه بعضهم.
1 / 10
والدليل على منعه: أنه إذا ثبت النظر، ووجب الرجوع إلى الاستدلالات، ففيه فساد تقليد من لا يعلم حقيقة قوله، ووجب الرجوع إلى الأصول وما أودع فيها من المعاني التي تدل على الفروع وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء:٥٩]، يريد إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فلم يردهم عند التنازع إلى غير ذلك.
ويدل على إبطال التقليد من غير حجة ما قال الله تعالى حكاية
1 / 11
عن قوم على طريق الذم لهم والإنكار عليهم ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٣ - ٢٤].
وقال ﷿: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
فذم الله تعالى على ترك اتباع الحجة والتقليد بغير حجة، فدل على صحة ما قلناه والله أعلم.
1 / 12
باب القول فيما يجوز فيه التقليد
فمما يجوز عند مالك ﵀ في مثله التقليد للعامي مما ليس للعالم فيه فيه طريق إلا أن يكون من اهله، يجوز عند مالك ﵀ أن يقلد القائف في إلحاق الولد بمن يلحقه إذا كان القائف عدلا في دينه بصيرا بالقيافة؛ لأنه علم قد خصهم الله ﷿ به
1 / 14
والدليل على ذلك ما روي عن رسول الله ﷺ في قصة مجزز المدلجي وقوله لما رأى أقدام زيد وأسامة: إن بعض هذه الأقدام من بعض، فسر بذلك النبي ﷺ، وذكره لعائشة ﵂؛ والنبي ﷺ لا يسر إلا بالحق.
وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يقبل إلا من عدلين قائفين ذكرين.
1 / 15
ويجوز تقليد التجار في تقويم المتلفات، ويكفي في ذلك واحد إلا أن تتعلق القيمة بحد، فلا بد من اثنين لمعرفتهم بذلك وطول دربتهم به.
قال القاضي ﵀ وقد وجدت في موضع أنه لا يجوز في كل تقويم إلا اثنان وإنما جاز تقليده في ذلك لأنه علم يختصون به، والضرورة تدعو إليه، فجاز قبول قولهم فيه.
ويجوز تقليد القاسم إذا قسم شيئا بين اثنين على ما رواه ابن نافع
1 / 16
عن مالك مالك ﵀ وهذا كما يقلد المقوم في أوروش الجنايات لمعرفته بذلك.
قال القاضي أبو الحسن: وكان الشيخ أبو بكر بن صالح الأبهري ﵀ قال لي قديما: يجب أن يكونا نفسين، ثم رجع عن ذلك.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يقبل قول القاسم فيما قسم
1 / 17
وإن كان معه آخر، قال: لأنه يشهد على فعل نفسه كالحاكم، إلا أن يكون الحاكم أرسلهما فيقبل شهادتهما.
ويجوز تقليد الخارص فيما يخرصه ويكفي في ذلك واحد، وقد كان النبي ﷺ يبعث ابن رواحة على الخرص وحده.
1 / 18
ويجوز تقليد الراوي فيما يرويه إذا كان عدلا، لأن الراوي لا يلحقه نهمة فيما يرويه، كما يلزم ذلك الراوي نفسه، وكذلك الشاهد فيما يشهد به، إلا أن الشهادة باثنين عدلين، والأخبار يقبل فيها الواحد العدل، حرا كان أو عبدا، ذكرا كان أو أنثى.
ويجوز تقليد الطبيب فيما يرد إليه من علم الجراح وغيرها مما لا يعلم إلا من جهته للضرورة إلى ذلك.
ويجوز تقليد الملاح إذا خفيت الدلائل في جهة القبلة على الذين يركبون معه إذا كان عدلا وكانت عادته جارية بمسيره في الماء والبحار، للضرورة إليه.
وكذلك كل من كانت عادته في الصحراء يجوز تقليدهم في القبلة لمعرفتهم بها وأنه لا يمكن كل أحد تعاطيه ولا معرفته.
1 / 19
وكذلك من هو في البادية يجوز تقليده في القبلة إذا كان عارفا بالصلاة وكان عدلا في دينه لمداومتهم مشاهدة جهة القبلة ودلائلها، والضرورة إليهم في ذلك عند خفاء دلائلها.
1 / 20
باب القول في تقليد العامي للعالم
قال القاضي ﵀: فأما تقليد العامي للعالم فجائز عند مالك ﵀ في الجملة والأصل فيه قول الله ﷿: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:٧].
1 / 21
وأيضا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣].
وهذا ما لا خلاف فيه نعلمه، والله أعلم.
1 / 22
باب القول في تقليد العامي للعامي
عند مالك ﵀: ليس للعامي أن يقلد عاميا بوجه، إلا في أشياء منها:
رؤية الهلال إذا اراد به علم التاريخ؛ فإنه يقبل قوله وحده لأنه خبر.
وإن كان مما يتعلق به فرض عليه في دينه مثل: صوم شهر رمضان والفطر منه، فلا بد من اثنين عدلين؛ لأنه من باب الشهادات وفي كلا الأمرين - الإخبار والشهادات - لا بد من العدالة.
1 / 23