وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها.
٥ - ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه ﷺ حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا «قال عبد الله بن مسعود ﵁: كأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يحكي نبيًّا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (١). .
ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي ﷺ في دعوتهم إلى الله تعالى.
فهذا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغًا عظيمًا حتى وصفه الله بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤] (٢). فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليمًا عمن ظلمه، وأناله مكروهًا، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤٦ - ٤٨] (٣). .
(١) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان ٦/ ٥١٤، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد ٣/ ١٤١٧.
(٢) سورة التوبة، ١١٤.
(٣) سورة مريم، ٤٦ - ٤٨.