ومن جانب آخر ينبغي أن نفهم كلمة (وضوح) فإن كل ما نعتقده بقوة ليس واضحا، ولأجل وضوحه ينبغي أن يخلص العقل من كل تأثير للحواس والخيال، ليدرك الأفكار بوضوح وتمييز، فإن مدركات الحواس مختلطة، والآراء المعقولة هي التي تولد من أعماق العقل واضحة متميزة. وكذلك لا يوجد واضح محسوس، إذ كل واضح معقول».
والجارحة التي تدرك الحقيقة مباشرة هي البصيرة
Intuition
ولا يريد بها ديكارت ما يتغير من أحكام الحواس والخيال، وإنما يريد بها إدراك العقل السليم اليقظ؛ الإدراك السهل الواضح الذي لا يتطرق إليه أي شك، الإدراك الحازم الذي يولد فقط من أضواء العقل.
وبموجب هذه البصيرة يستطيع كل إنسان فيما يرى ديكارت أن يعلم أنه موجود، وأنه يفكر. ويستطيع كذلك أن يعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن 2 + 2 = 4 كما أن 1 + 3 = 4 لأن هذه الأحكام مدركة بغاية الوضوح والجلاء .
وديكارت يبدأ بنفسه فيفرض أن جميع ما يراه باطل، فماذا يمكن أن يعتبر صحيحا حينئذ؟ قد لا يثبت إلا عدم وجود شيء يقيني في العالم، ولكن يبقى بالطبع أن هناك إنسانا شك، وأن هذا الإنسان لا محالة موجود وهنا يقول ديكارت كلمته المأثورة:
Je pense, donc je suis
أنا أفكر، فأنا إذن موجود. ولا بأس فيما يرى ديكارت أن يغش الإنسان ويخدع، فإن هذا يدل فقط على أنه رأى الأشياء على غير ما هي عليه، ولا ينافي أنه كائن موجود. ويرى ديكارت أنه قد يرغب في أشياء لن تكون فالمرغوب فيه موهوم، ولكن الرغبة نفسها حقيقة لا خيال.
وجملة القول في أسلوب ديكارت أنه لا شيء أوضح لديه من فكره، فهو يؤمن أولا بوجوده، ثم ينتقل إلى الأشياء يقيس وجودها بقدر ما فيها من الوضوح؛ لأن القاعدة عنده أنه لا يصح قبول شيء على أنه حق حتى يعرف «ما هو» بغاية الجلاء.
ولفلسفة «ديكارت» كثير من الخصوم والأنصار، ولا يسمح لنا الوقت بتفصيل ما قيل في النيل منه ، والدفاع عنه، وربما عدنا إليه في مؤلف خاص. (2) الغزالي وبسكال
Unknown page