والذي يقرأ حياة ابن رشد، ويرى ما لقيه في زمانه، يعلم أن العرب كانوا يحتضرون، وأن دولتهم كانت تمشي إلى الفناء، لأن الذين يحاربون الفكر الحر، ويضطهدون المفكرين الأحرار، لا يصلحون مطلقا للحياة. وكذلك دالت دولة العرب بعد ذلك.
وخصومة ابن رشد للغزالي تكاد تكون فلسفية، فقد وضع الغزالي كتابا سماه «تهافت الفلاسفة»، والغرض من الكتاب ظاهر من عنوانه، فعارضه ابن رشد بكتاب سماه «تهافت التهافت»، والذي يهمني من معارضة ابن رشد للغزالي إنما هو دفاعه عن ابن سينا والفارابي، فقد كان الغزالي يراهما من الكفار.
ويتلخص دفاع ابن رشد في أن مسألة قدم العالم وحدوثه التي كانت مثار الخلاف، إنما كان الاختلاف فيما بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية وبخاصة عند بعض القدماء. فإن هناك ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة بين الطرفين. وقد اتفقوا في الطرفين واختلفوا في الواسطة. أما الطرف الأول فهو موجود وجد عن شيء ومن شيء، أي عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم على وجوده، وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس مثل الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه محدث. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه قديم وهو الله. وأما الصنف الثالث فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء أي فاعل، وهذا هو العالم بأسره. والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون بأن الزمان غير متقدم عليه لأن الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. يقول ابن رشد: «فهذا الموجود الأخير، الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما. ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا. وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة كما ظن المتكلمون في هذه المسألة».
ولم يقف ابن رشد عند هذا الحد، بل انتقل إلى كلام هو في الواقع صفع لأدعياء العلم الذين يحسبون قدم العالم وحدوثه من الأمور الهينة التي يصدرون عنها الفتوى كأنها مسألة طلاق!! وإليك ما يقول في ذلك:
مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر في الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة. وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء .
1
يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
2
Unknown page