ومن هنا كان الغزالي يرى أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد، لأنها بدون التكرار لا تصبح صفة للنفس. ولا معنى للشقاء المؤبد إلا أن تصير إحدى الرذائل صفة نفسية لأحد الناس.
الفصل الثاني
إمكان تغيير الخلق
لهذا الفصل علاقة ظاهرة بالفصل الذي قبله، فإن تربية الخلق معلقة على إزالة الخلق السيئ. ويرى الغزالي أن تغيير الخلق ممكن ويقول في ذلك تعليقا على قوله عليه السلام: «حسنوا أخلاقكم» لو لم يكن ممكنا لما أمر به، ولو امتنع ذلك لبطلت الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، فإن الأفعال نتائج الأخلاق، كما أن الهوى إلى أسفل نتيجة الثقل الطبيعي، بل كيف ينكر تهذيب الإنسان مع استيلاء العقل، وتغيير خلق البهائم ممكن إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى التأنس، والفرس من الجماح إلى السلاسة».
ويظهر أن الغزالي شهد من يرى أن الخلق كالخلق لا يمكن تغييره، وإلا كان طمعا في تغيير خلق الله، وقد ذكر في ذلك أن خلق الله قسمان: قسم لا فعل لنا فيه، كالسماء والكواكب، وقسم فيه قوة لقبول كمال بعده، إذ وجد شرط التربية. وتربيته قد تتعلق بالاختيار، فإن النواة ليست بتفاح ولا نخل، ولكنها قابلة بالقوة لأن تصير نخلا بالتربية، وغير قابلة لأن تصير تفاحا، وإنما تصير نخلا إذا تعلق بها اختيار الآدمي في تربيتها ويقول: «فلذلك لو أردنا أن نقلع بالكلية الغضب والشهوة من أنفسنا ونحن في هذا العالم عجزنا عنه، ولكن لوأردنا قهرهما وإسلاسهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه».
أقسام الطبائع
وهو بعد ذلك يقسم الجبلات إلى سريعة القبول، وبطيئة القبول، باعتبار التقدم في الوجود، ويقسم الناس في تغيير الخلق إلى أربع مراتب؛ الأولى: الإنسان الغفل الذي لا يعرف الحق من الباطل والجميل من القبيح. وهو أقل الأقسام للعلاج، فلا يحتاج إلا إلى مرشد وإلى بعث يحمله على الاتباع. الثانية: أن يكون قد عرف القبيح، ولكنه لم يتعود العمل الصالح. بل زين له سوء عمله، يتعاطاه انقيادا لشهواته، وإعراضا عن صواب رأيه، فأمره صعب من الأول، إذ تضاعف علته. فيلزم (أ) قلع ما رسخ فيه من تعود الفساد (ب) وصرف النفس إلى ضده. الثالثة: أن يعتقد أن القبيح حق وجميل. ويرى الغزالي أن هذا لا يرجى صلاحه إلا على الندرة، إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال. الرابعة: أن يكون مع وقوع نشوئه على الاعتقاد الفاسد، وتربيته على العمل به، يرى فضله في كثرة الشر، واستهلاك النفوس، ويتباهى بفساده، ويراه مما يرفع قدره. قال الغزالي: وهذا أصعب المراتب وفي مثله قيل: من التعذيب تهذيب الذئب ليتأدب وغسل الأسود ليبيض. ثم قال: فالأول: من هؤلاء يقال له جاهل والثاني: جاهل وضال، والثالث: جاهل وضال وفاسق، والرابع: جاهل وضال وفاسق وشرير.
ولا يفوتنا أن نقرر أن الغزالي لا يريد من تغيير الخلق إلا قهره وإسلاسه، وقد صرح بذلك في قوله:
وظنت طائفة أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها، وهيهات! فإن الشهوة خلقت لفائدة. وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية، بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط.
كيف يعرف المرء عيوب نفسه
Unknown page