وأنا لا أفهم ما هو هذا الكسب الذي يقره أهل السنة، ويتبعهم الغزالي في إقراره. فهم لا يقولون بأن العبد مضطر، وإلا كانوا جبرية، والجبرية في رأيهم خاطئون. ولا يقولون بأنه مختار، وإلا كانوا معتزلة، وهم قد سلقوا المعتزلة بألسنة حداد. فلم يبق إلا أن العبد لا هو حر ولا هو مختار، وإنما هو مكتسب، وهذا الكسب أيضا مراد الله. إذن فما الذي بقي للعبد المسكين!
الحق أن هذه وسوسة أوقعهم فيها الخلاف!
وأساس هذه الوسوسة أنهم يحسبون حرية الإرادة خروجا عن الله من ملكوته، والغزالي يضرب المثل بزعيم الضيعة يستنكف أن يكون لأحد العمال رأي معه، وما كان أغناه عن ضرب هذه الأمثال!
إن حرية الإرادة الإنسانية لا تضر الله شيئا، فما بال أهل السنة يأبون إلا أن تكون طرفة عين، وهي حركة طبيعية، أثرا لإرادة الله؟
ولا قيمة لما يجيب به المتعسفون من أن اختراع الله للقدرة كاف في إقرار الكسب للمرء، فإنه لا خلاف في أن الله واهب القدرة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يسيرها أنى شاء، ومتى شاء، وإلا كان التكليف ضربا من العبث، ولو كره المتكلفون . فلم يبق إلا أن الإرادة حرة، وذلك هو ما وضع الله من قانون، فلا يبتئسوا بما نقول!
على أن العهد قريب بما قال الغزالي في تربية الإرادة، فإذا كان ما أريده هو ما يريد الله، فأي الإرادتين تربو؟ إن هذا إلا تناقض.
ونعود فنكرر أنه قرر في مكان آخر من الإحياء «أن النية غير داخلة تحت الاختيار»، وقد عرفت أنه يريد بالنية الإرادة، وأن رأيه وسط بين الجبر والاختيار، أفلا يكون متناقضا في حكمه: تارة بأن النية حرة، وتارة بأنها مجبورة؟
الحقيقة أن الإرادة التي يقرر الغزالي أنها غير مختارة ليست هي الإرادة بمعنى القصد، وإنما ذلك ما يسمى إرادة صادقة، وهي التي يعقبها التنفيذ، فمن الجائز أن أقصد إلى أي عمل في أي وقت، ولكن ليس في مقدوري أن أرغب رغبة صادقة في كل ما يعن لي من الأعمال، في جميع الأحيان. وفي ذلك يقول الغزالي: «فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر في بعضها. نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات، فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالبا، ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك. بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر عذاب النار أو نعيم الجنة، فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته».
وخلاصة رأي الغزالي أن المرء حر في الإقبال على ما شاء من الأعمال. وإن كان في إقباله إنما ينفذ إرادة الله، ولكنه ليس صادق النية في كل حين، وإنما تصدق النية بالترغيب في الجنة والتخويف من النار.
ولا يفوتنا أن ننبه على ما دعا إليه في تربية الخلق من مخالطة الأخيار، فإن في ذلك اعترافا ضمنيا بتأثير الوسط في الإرادة الإنسانية، ونقله إياها من حال إلى حال. وهذا نوع من الجبر، ولكنه جبر معقول.
Unknown page