ورحت أنشد الجاحظ في دكاكين الوراقين، فلقيني أعمى يتعكز على عصاه، فعرفته ورجوت أن يكون أرحب صدرا من زملائه، فأخذ الشيخ يتلوى كأنه ممغوص. ومما قال: هجرت الناس لأستريح فلم يكفوني شرهم، هذا يثقل علي في سجني برابطة المودة، زاعما أنه يعرف فضلي. وذاك يطوفني في الدنيا وأنا رجل ضرير مكسور العصا، ويزيدني نكاية بتقويلي ما لا أقول. ندمت والله، واستغفرت ربي ألف مرة؛ لأنني كتبت «عبث الوليد» فما عبثكم أنتم بنا يا أولادي؟ لست والله من عميان الكدية، أفي كل عصر لي ابن قارح يقرح قلبي وكبدي؟
فقلت في نفسي: ربما سئم هؤلاء المشاهير دروسا هي حقا أثقل من درس البيادر، فجاء في بالي دعبل الخزاعي، وإذا به يرتفع لي من بعيد، يحمل خشبته التي لم يصلبه عليها أحد، فحمد الله وأثنى عليه؛ لأنه استراح بشفاعة آل البيت من منهاج البكالوريا.
ومنيته، مواعد كاذبات فما صدق ولا اغتر. وكان وداعنا صرخة داوية، فاستيقظت على صوت صاعقة انقضت في مكان قريب. فقعدت في فراشي مذعورا أدلك عيني كالخفاش.
التشبه آفتنا الكبرى
إذا التقيت رجلا ورأيته مقطب الجبين ملبوكا مرتبكا، يضرب التل ولا يصيبه، فاعلم أن يده قد قصرت. وإذا حدثته وراح يشكو لك العسر والضائقة المالية، فاعلم أنه سقط في هوة التشبه فأسرف ولم يقف حتى استحال يسره عسرا.
إنه إما مبذر، وإما له زوجة غير حكيمة. ومتى اجتمع الاثنان في بيت فرح من دربه لئلا يطمرك ردمه، ولا عاصم لك!
من طبيعة المرأة أن تسأل القادم من أهلها عما صنع الداعون إذا كان آتيا من وليمة، أو من حفلة كوكتيل، والغاية من هذا السؤال هي أن تزيد عليهم حين تأتي نوبتها؛ ولتظهر أنها من سيدات المجتمع الراقيات ...
وإذا كانت المرأة مع زوجها والتقى صديقه وزوجته، فهي تنظر قبل كل شيء إلى ثياب تلك السيدة وحلاها، وتلسعها عقارب التشبه. لا يعنيها إلا تأمل ذلك الثوب، والسؤال عن ثمن ذراعه، وتكاليف خياطته و... و...
أما وجه صديقتها فهو في الدرجة الثانية من الأهمية؛ لأنه لا يمكن الحصول عليه من السوق.
الناس، وخصوصا في الشرق مطبوعون على حب الظهور، ولو كان يقطع الظهور. وأكثرهم يطلبون المعالي من غير أبوابها، ويظنون كسب المجد ببذل درهم يجمعونه مجبولا بعرق الجبين ومصبوغا بدم القلب.
Unknown page