رأيت سيدة تغضي حياء ويغضى من مهابتها، رأيتها تلملم ذيول دمعة وتمشي في سبيلها تهمهم وتدمدم، فقلت: ها قد سقطت على الموضوع فلنتقدم.
وتقدمت وتقدمت هي. وأخيرا وقفت لتمر العاصفة بسلام. ولكني وقفت أنا أيضا لأقول لها: ما بك يا سيدتي؟ رأيتك خرجت من ذاك المعهد دامعة.
فتفرست في محاولة أن تعرف إذا كنت من يوثق به، ثم قالت: «يا ويل من يحط عليه الدهر في هذا البلد، عرضت أساوري على أمين صندوق المدرسة فقال لي: اذهبي إلى سوق سرسق، وهناك تجدين من يشتريها منك، أما نحن فخدام علم لا صيارفة.»
فقلت: اجعلنا رهينة في يديك لبضعة أيام، ولولا الخوف من ضياع الوقت على أولادي لتصرفت بها، كيفما دارت بها الحال، ودفعت القسط.
فأجابني: آسف يا سيدتي فلا تضيعي وقتك ووقتي فغيرك ينتظر نوبته.
هذه قصتي الحاضرة، وهناك غيرها أقاصيص شتى، منها أن ابني الكبير أرسلناه إلى أوروبا لينهي علومه في إحدى جامعاتها. كنا في بحبوحة يوم راح، فظل يبرق إلينا: أرسلوا دراهم، وظللنا نرسل حتى نهاية هذا العام الذي وقعت به الكارثة. أفلسنا وصرنا إلى ما صرنا إليه. فالأوقاف التي كنا نتبرع لها، والجمعيات الخيرية التي كنا نعضدها لم تشأ أن تتذكر ماضينا، ولا الذين على كراسي الحكم يذكرون ليالينا الطافحة شرابا، وبيتنا الذي جعلناه لهم مرقصا.
فقلت: أليس في طائفتك أوقاف.
فقالت: بلى، ولكنهم يزعمون أن الأوقاف للفقراء ونحن لا نزال نحسب من الأغنياء. رحم الله ذلك الزمان الذي كانت فيه مدارسنا ترى أصحاب البيوت الهاوية أحق بالمساعدة؛ لأنهم ساعدوا يوم كانوا قادرين.
فقلت: وأين أبو أولادك لا يقوم عنك بهذه المهمة الشاقة؟
فكزت على أسنانها وقالت: الله يقصف عمره، هو الذي رمانا وانسل.
Unknown page