كان الصباح باسما بهيجا، وقد بددت العاصفة رطوبة الليل، وظهرت الطبيعة فرحة منتعشة، وكان الندى يتساقط كاللؤلؤ من أغصان الأشجار، وأطبق النعاس عيون السيدتين اللتين رافقتانا، وسألتني شارلوت عما إذا كنت أرغب في الراحة، قائلة إنها ترجو ألا يكون وجودها مضيقا علي، فأجبتها محدقا بمحياها المحبوب: «إن وجودك يحتم علي اليقظة، بل إنه ليستحيل علي أن أغمض جفني وعيناك مفتوحتان.» فصبغت وجنتيها حمرة الخجل، وسرعان ما عاودهما إشراقهما المعتاد، وتجاذبنا الحديث حتى وقفت المركبة ببيتها، وفتح الباب بهدوء خادم أجاب على أسئلة شارلوت المتوالية بأن الأسرة كلها بخير، ولم تهب بعد من فراشها، ولما استأذنت بالانصراف، وعدتها بزيارتها قريبا، وإنني موف بوعدي.
منذ ذلك اليوم لم أعبأ بالكواكب ولم أحفل بالساعات، والزمن يمر دون أن أدري. إن العالم كله لا شيء إذا لم تكن شارلوت أمامي، ولكنه ينقلب جنة ونعيما متى حضرت.
إلى الملتقى يا صديقي فيجب أن أراها الآن.
الرسالة الثالثة عشرة
21 يونيو
حقا إن أيامي الآن سعيدة ممتعة، تشبه الآخرة التي يوعدها المتقون، خل المستقبل يأتي كما يشاء، ولكن علي الآن أن أعترف بأني قد نعمت في حاضري بأكمل هدوء وأتم سلام. أنت تعرف قرية والهيم، فاعلم أنني أسكن بها الآن، على بعد ثلاثة أميال تقريبا من شارلوت، وإنني في عزلتي هذه لأفخر بسعادة لم يظفر بأكثر منها إنسان، ولم يكن يخطر ببالي من قبل حين اخترت هذا المكان ليكون معتزلي ومأواي، أنه يحوي هذه الجوهرة العظيمة، وطالما رأيت في جولاتي هذا المقعد الخلوي، الذي أرتاح له وأغتبط به الآن، لقد تطلعت إليه أحيانا من قمة الجبل، ورقبته من الحقول على ضفة النهر المقابلة، ولشد ما فكرت كثيرا في دأب الإنسان وسعيه دون فائدة أو جدوى، يعمى عن كنوز بلاده وجمالها؛ فيشرئب إلى البعيد، ويضرب في الأرض منقبا عن كل مكتشف جديد، ولكن هذه البدع سرعان ما تفقد بهاءها، فينقلب راكضا إلى السعادة التي غادرها وراءه، فإذا ما عاد قنع بحياته الأولى لا يهمه بقية العالم فتيلا.
أحببت هذه البقعة الرائعة لأول مرة رأيتها، ممتلئة بمحاسن الطبيعة من مناظر بهيجة للغابات والجبال والصخور، آه! من لك بأن تراها أيها الصديق!
بيد أنني مع ذلك لم أقنع بما وجدت، بل تركته، وأنا كما كنت من قبل. وا حسرتاه! إن المستقبل أيها الصديق كطريق غامض لم نطرقه بعد، أمامنا ظلمات حالكة مخيفة، لا يستطيع الفكر سبر غورها، إننا نغتبط بالصور التي يدبجها خيالنا، فنجد وراءها بلهف وشوق، ولكن إذا حسرت الحقيقة عنها القناع، غاض ذلك السرور وتلاشى، وهكذا يتوق الغائب إلى وطنه، فيجد بين جدران كوخه، مع زوجه وأطفاله، سعادة بيتية، وهناء لم يذقهما في أسفاره السحيقة.
أنا سعيد في عزلتي هذه، أصحو مع الشمس فأجمع البسلة بيدي، وأجلس لأنزع قشرها، وأقرأ هومر، ثم أضعها في القدر وأغطيها، وأحركها متى غلى ماؤها. ثم أتصور أمامي عشاق بنيلوب
1
Unknown page