قعدا في الخربة وفيها الأساطين والتماثيل مهملة مبعثرة، وكأن الجملين هالهما المنظر فتهيبا فأخذا في الهدير وسمعان يسكتهما؛ لئلا ينم هديرهما على المكان، فوضع لهما العلف يشغلهما به ولم يمض إلا يسير من الوقت حتى مالت الشمس نحو الأفق، فاستطالت الظلال حتى إذا توارت الشمس اختلطت وصارت ظلاما، فاستولت الوحشة على تلك الخرائب، فلجأت دميانة إلى الصلاة تستجير بالسيد المسيح وبالعذراء، وأخذ سمعان يهتم بالانتقال من ذلك المكان، وهو لا يخلو من الحشرات السامة فضلا عما يعتقدونه من وجود الجان أو العفاريت فيه. ولولا الإيمان والصلاة لما أطاقا المكوث هناك لحظة، فضلا عما قاسياه من العطش؛ فإن قرب الماء كانت محمولة مع القافلة، وأخذت معها.
فلما اشتد الظلام قال سمعان: «هيا بنا نركب إلى الأهرام؛ إني لا أرى شبحا ولا أسمع أصواتا، ولا ريب أن القوم رجعوا إلى الفسطاط.»
فنهضت دميانة، فأركبها جملها وركب جمله بحيث تبقى هي في أثره. وسارا هكذا وهما لا يتكلمان وقد تهيبا الصمت التام المستولي على تلك الرمال وما يجاروها من المغارس. فإذا التفت الناظر رأى إلى يساره الأفق تعترضه التلال الرملية والصخرية وإلى يمينه البساتين حتى النيل، ووراءه المقطم، وفي سفحه القطائع والفسطاط. وعلى ضفتي النيل شجر النخيل يناطح السحاب. •••
كان سمعان يتطاول بعنقه من فوق جمله، ويشخص ببصره، ويتفرس فيما أمامه؛ مخافة أن يكون هناك متربص من اللصوص أو الجند فكان يرى أبا الهول والهرمين الكبيرين، تقترب إليه وتتجلى صورها بالتدريج وهو يصيخ بسمعه فلا يسمع إلا صوت وقع خفاف الجمل على الرمال وصوت شخيره أو تنفسه. حتى إذا اقتربا من أبي الهول أمسك سمعان بزمام جمله ليسير الهوينى، ولم يتجاوز أبا الهول ويشرف على الهرم الكبير حتى رأى شبحا يتسلق الهرم متلصصا، وظهر له من قيافته أنه من العامة ولم ير وجهه ليتبين سحنته. فلما رآه يتلصص أوقف الجمل، فوقف الرجل هنيهة ثم عاد إلى الصعود، فتأكد سمعان أنه لا يفعل فعل المتلصص الخائف، فساق الجمل نحو الهرم حتى استقبل الجانب الذي رأى الرجل يتسلقه، فرآه قد اتجه إليهما ونزل إلى أسفل الهرم ووقف، فخطر لسمعان أن يسأله عن الماء ليتطرق من ذلك إلى أسئلة أخرى، فقال له باللغة القبطية: «من الرجل؟»
فأجاب: «من أهل القرى، ومن أنت؟»
قال سمعان: «غرباء نطلب ماء، هل تعرف مكانا فيه ماء بهذا الجوار؟» فتقدم الشيخ وقال: «إن في هذا الجوار عينا ذات ماء كثير ، تعاليا فأدلكما عليها.»
وكانت دميانة تخشى أن يكون الرجل من طلائع الجند فلما سمعت صوته خفق قلبها وأجفلت؛ لأنه يشبه صوت زكريا. فلما رأته مشى وخلفه سمعان صبرت حتى تسمع كلامه ثانية، فعاد سمعان إلى سؤاله عن أقرب الطرق إلى الفسطاط فقال: «تنحدران من هذه الأكمة بين هذه المغارس إلى الضفة، فتجدان هناك جسرا من السفن المتحاذية، تقطعانه إلى جزيرة الروضة، ومنها تقطعان جسرا آخر إلى الفسطاط.»
وكانت دميانة تسمع كلام الرجل وقلبها يزداد خفقانا؛ لأنه صوت زكريا بعينه، وتفرست في مشيته عن بعد فتحققت أنه هو فلم تعد تعلم ماذا تعمل من الدهشة والفرح، فتجلدت وقالت: «هل تريد أن ترافقنا في هذا الطريق يا عماه؟» قالت ذلك بصوت مختنق من شدة التأثر.
فعجب سمعان لتصديها للكلام ومن اختناق صوتها، أما الرجل فلما سمع الصوت وقف والتفت إلى دميانة والظلام يحول بينهما، وكانت هي قد استعدت لإمعان النظر فيه فلم يبق عندها ريب من أمره، وأما هو فاختناق صوتها أخفى عليه أمرها، فقال: «إني في خدمتكم إلى حيث تشاءون، فهل نذهب توا؟». وأصغى ليسمع الجواب.
فقالت: «نشرب أولا، ثم نسير إلى المعلقة.»
Unknown page