Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genres
وإن مصر اليوم لتعطف على عرابي وثورة عرابي، وقد آن لها أن تنصف هذا المصري الفلاح وأن تحدد له مكانه بين قواد حركتها القومية ...
وليس بعجيب أن يموه كتاب الاحتلال وصنائعهم وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون، نقول ليس ذلك بعجيب ونحن نجد - وا أسفاه! - رجلا من خيرة رجالنا ومن مفاخر أبطالنا يكتب عن عرابي صاحبه في الجهاد وزميله فيما كان يطمح إليه من آمال، فينكر عليه زعامته ويقدح فيه قدحا كم تألمنا لصدوره عن بالذات، وله في نفوسنا ما له من الإجلال والإكبار، ذلك هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ...
وإنا إذ نحرك القلم لننقل هنا ما كتبه ذلك الشيخ الجليل عن عرابي لنحس بكثير من الخجل والأسف، فما كنا نحب إلا أن يتنزه الإمام الكبير عما وقع فيه غيره وما نريد بنقل ما كتبه الأستاذ الإمام عن عرابي وبيان ما أحاط به من ملابسات أن نسيء إلى ذلك الشيخ؛ فتوقيرنا إياه وإجلالنا له فوق كل شك، وإنما قصدنا أن نبين كيف تبعد أحيانا بالمرء على رغمه عوامل وظروف عما يجب من إنصاف، ويهمنا بوجه خاص حدوث ذلك من الشيخ محمد عبده بالذات، فقد هان بعده كل اتهام يوجه إلى عرابي، وصغر كل ادعاء من ادعاءات المغرضين، وإذا كان الشيخ محمد عبده يكتب عن عرابي هذا الذي نورده وهو العليم به الخبير بأحداث عصره، وهو فوق ذلك الإمام الزعيم، فكيف بالظالمين الغاصبين من أنصار الاحتلال وأبواقه؟
وكأني بالقارئ يقول في نفسه: ولم لا يكون حقا ما قاله الأستاذ الإمام عن عرابي، وللقارئ أن يتساءل هذا التساؤل، ولكنه لن يلبث حتى يعلم اليقين ...
كتب الأستاذ الإمام محمد عبده مذكراته عن عرابي بطلب من الخديو عباس حلمي، وهذه دعوى لا تحتاج إلى دليل؛ فقد جاء في مقدمتها قوله: «هذا مقام الذاكر لنعمتك، العارف بقدر منتك، العاجز عن الإيفاء بحق شكرك، التالي في سره وجهره لآيات حمدك، طوقتني إحسانا لم أكن أتأمله، إذ أمرتني أمرا ما كنت أتخيله، أمرت أن أكتب ما شهدت وما سمعت وما علمت وما اعتقدت في الحوادث العرابية من عهد نشأتها إلى نهايتها.» إلى أن يقول: «مولاي: أرفع إلى سدتك السنية ما وقفت عليه بنفسي غير ناظر في كتاب ولا راجع إلى مقال سبقني به غيري، اللهم إلا بعض الأوامر الرسمية أو شيء من المخابرات السياسية التي تضطرني في بيان الواقع إلى الإشارة إليها إذ لا غنى للقارئ عن الاطلاع عليها.» إذا كان هذا شأن هذه المذكرات فليس مما يتوقعه المرء أن يمتدح محمد عبده عرابيا ويظهره على حقيقته زعيما وطنيا مجاهدا مطالبا بالدستور الذي أنكره توفيق، فيسيء بذلك إلى عباس بن توفيق ...
ولقد كانت صلة الإمام بالخديو أول الأمر طيبة، فلما دب بينهما دبيب الخلاف فيما بعد أمسك الأستاذ عن إتمام تاريخ الثورة العرابية، ولو أن محمدا عبده كتب هذا التاريخ بغير طلب الخديو، أو لو أنه كتبه بعد الخلاف بينه وبينه لما ذكر عن عرابي ما ذكره مما سيأتي بيانه، ولقد كان محمد عبده فيما كتبه عن توفيق مترفقا به كل الترفق، يلتمس له المعاذير في كل أمر، وفي هذا وحده ما يكفي لبيان ما كان يحيط به من عوامل بعدت به عن الإنصاف.
يضاف إلى ما تقدم أن الأستاذ الإمام، وإن كان من دعاة الشورى والحكم الدستوري كأستاذه جمال الدين إلا أنه كان يرى أن مصر لم تكن تهيأت يومئذ لهذا الحكم، وكان يميل إلى حكم رياض، ويحسب أنه يجد فيه المستبد العادل الذي ينهض به الشرق، ولذلك نقم الأستاذ على عرابي ونفرت نفسه من الحركة العسكرية، نجد الدليل على ذلك في قول الشيخ رشيد رضا تلميذه وكاتب تاريخ حياته: «إن الأستاذ كان مؤيدا لوزارة رياض باشا الإصلاحية، ويرى أنها صورة حسنة للمستبد العادل الذي يرجى أن ينهض بالأمة في مدى خمس عشرة سنة كما بين ذلك في مقالة اجتماعية عامة وجيزة يراها القارئ في الجزء الثاني من هذا التاريخ، وكان يفضلها على إنشاء حكومة نيابية قبل استعداد الأمة لها.»
نورد بعد ذلك ما كتبه الأستاذ عن عرابي، فنقول إنه استبعد أن يكون عرابي من طلاب الدستور لذاته، فكأنه ما طالب بالدستور إلا محافظة على نفسه بعدما كان من فعلته التي أدت إلى حادث قصر النيل. يقول الأستاذ: «هذه أحاديث عقل ينبو عن فهمها ذهن شخص مثل عرابي تمثلت له جنايته في صور أغوال فاغرة الأفواه محددة الأنياب، ولزمه خيالها في يقظته ومنامه، فهو في فزع دائم يخيل له العزل والموت في كل شيء يراه، يلتفت يمينا وشمالا فلا يرى إلا سيوفا مسلولة أو حبالا منصوبة، ولا يسمع من هواجس نفسه إلا صيحة واحدة: الخلاص، الخلاص، الهرب، الهرب، ولم يتمثل في مخيلته مهرب أوفى له من طلب تشكيل مجلس النواب على الصورة التي قدرها له في نفسه.»
وقال في موضع آخر: «استحثه الحرص على إدراك المطلب أن يفضي به إلى ضباط الجيش وأن يثير في أحلامهم الضعيفة تماثيل الأماني من العزة والسلطان والصعود إلى أعلا مراقي الرتب والمناصب، وإن كل ذلك لا ينال إلا بمجلس النواب.»
وقال في موضع ثالث: «أما عرابي فلم يكن يخطر بباله ولا يهتف به في منامه أن يطلب إصلاح حكومة أو تغيير رئيسها، فذلك مما كان يكبر على وهمه أن يتعالى إليه، وإنما الذي أحاط بفكره وملك جميع مقاصده هو الخوف على مركزه مع شدة البغضاء لمن كان معه من أمراء الشراكسة والمنافرة من عثمان باشا.»
Unknown page