Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Genres
وعاد الصبي إلى قريته ولسنا نعلم ما الذي حمله على العودة، أكان ذلك نفورا من التعليم وركونا إلى البطالة، أم كان لرغبة منه في أن يسلك في الحياة سبيلا غير سبيل الأزهر؟ ذلك ما لا نستطيع أن نتبينه على وجه اليقين. وكان من الممكن أن يعيش هذا الصبي القروي بقية عمره في تلك القرية زارعا ثم يموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين.
ولكن الأقدار تخرجه بعد قليل من القرية ليغدو فيما بعد رجلا من رجال مصر، بل ليكون أول مصري فلاح ينطق بحق مصر وتتمثل في حركته الروح القومية لمصر وقد استيقظت من سبات طويل، وأخذت تنفض عنها غبار القرون، أجل أخرجت الأقدار هذا الفلاح من قريته ليقف وجها لوجه تلقاء خديو مصر يعلن إليه في بسالة وفي غير طيش أن «أهل مصر ليسوا عبيدا، وأنهم لن يورثوا بعد اليوم»، ويفتتح بهذه الوقفة وبهذه الكلمة فصلا جديدا في تاريخ هذه البلاد، فيكون فضله فضل الرواد يخطون الخطوة الأولى فيظل لهم الفضل ويظل لهم الحمد وإن اتسعت بعدهم الخطوات وتوالت الوثبات. وما نحسب خطوة عرابي في طريق الحرية والقومية كانت أقل خطرا من وثبة سعد، ذلك الفلاح الذي نهض من بعده والذي غضب مثل غضبته ووثب مثل وثبته واتجه نفس وجهته، ولكنه لم يكن من رجال السيف فلم يشهر إلا القلم سلاحا، ولم يمتط إلا أعواد المنابر مجاهدة وكفاحا. •••
ونحب أن نقف عند أمرين في نشأته كان لهما أثر بعيد في تكوين خلقه وخلق شخصيته؛ أما أولهما فهو أن أباه كان شيخا في القرية، وأما الثاني فهو أنه في التحدث عن نسبه يصل أجداده بالحسين عليه السلام.
كان يجد أبناء الحكام في القرى حتى وإن لم يكن حظ آبائهم من الثراء كبيرا أنهم في موضع يصغر دونه موضع أبناء الزراع ، ففيهم على لداتهم شيء من الترفع وفي نفوسهم شيء من الكبر على من حولهم من الناس، إذ يجد الصبي منهم أباه محاطا بالتوقير مخوف الجانب يتقدم الناس إذا سار ويفسح له صدر المجلس إذا جلس، وتبدو عليه إذا كان ذا مال آثار النعمة في مظهره وملبسه كما تبدو تلك الآثار في مسكنه وفيما يقتني من دواب وفيما يقوم على خدمته من خدم أو يلوذ به من أتباع أو يحيط به من بطانة، لذلك كان إذا خرج هؤلاء الأبناء من القرية إلى مجال أوسع منها خرجوا وفي أنفسهم ذلك الاعتزاز الذي ألفوه في بيئتهم الأولى فما يحبون أن يسمعوا كلمة نابية، بل إنهم ليكرهون أن يجدوا عدم الاكتراث لهم بله التطاول عليهم. ولقد يوحي إلى الصبي منهم ما غرس في نفسه منذ صغره أن يثور على الوضع الجديد إما بإظهار القوة البدنية على من كانوا في مثل سنه، أو بالتفاخر عليهم بالمال والنسب، وإما بالعناد والشغب على من لهم عليه حق الطاعة من المربين والرؤساء. ولقد يسرف هؤلاء فيتوهمون المذلة فيما ليس فيه مذلة، أو يفسرون بالإهانة ما لم يقصد به أية إهانة فيبدون لذلك كثيرا من الإباء ويغالون فيه حتى ينقلب إباؤهم شراسة أو حتى يحسبه الناس شراسة. •••
ونحس من سيرة عرابي أنه كان أحد هؤلاء، فلما قدر له أن يخالط قوما كانوا ينظرون إلى المصريين جميعا نظرة الاحتقار، ويجعلون نعتهم بالفلاحين مسبة لهم، ثارت في نفسه الحمية، ثم عصفت في رأسه النخوة، فكان صوته أول صوت مصري مثل القومية المصرية، وإن كان بذلك يفصح عن شعور غيره ممن أحسوا مثل إحساسه ولكن لم يكن لهم مثل جرأته وقوة شخصيته.
وزاد الحمية تسعرا في نفس عرابي ثاني الأمرين اللذين أشرنا إليهما، وذلك وصله أجداده بالحسين بن علي رضي الله عنهما، فسواء أصحت هذه الصلة أم لم تصح فقد كان بها مؤمنا، وكان إيمانه بها كفيلا أن يملأه أنفة وعزة، فمن كان مثله كما يزعم شريفا عربيا ينتمي إلى الحسين عز عليه أن يستذل، وبخاصة بأيدي قوم يرى أنهم مهما علوا فهم دونه علوا وشرفا، وإنك لتلمح اعتزازه بنسبه في تمثله ببيت الفرزدق «أولئك آبائي.» في خاتمة كلامه عن نسبه في مذكراته.
بقي الصبي في قريته لا يعلم ماذا يكون من أمره في غده، ولا يخالط إلا الفلاحين من أبناء القرية. أما الشراكسة المترفعون الذين يمقتون الفلاحين فلم يك يعلم من أمرهم شيئا، ولا كان يسمع يومئذ بوجودهم، وأنى له ذلك في قريته، ولكن الأقدار عما قريب سترمي به إلى حيث يجد نفسه - كما يجد بني قومه - موضع ازدراء هؤلاء، فلا يطيق هذا الفلاح المصري ترفعهم وكبرياءهم والتمتع بأكبر المناصب في الجيش، وإذ ذاك يناضل عن قوميته ويغضب لكرامته، ويكون في هذه الدائرة الضيقة - وإن لم يقصد - ممثلا مصر كلها التي كرهت الأجانب يومئذ وقد استيقظت فيها روح القومية، تلك الروح التي تتمثل فيما امتلأت به نفس ذلك الفتى القروي القادم من قرية مصرية.
في صفوف الجيش
لم يطل بالصبي المقام بالأزهر، ولم يطل به كذلك المقام في قريته؛ فإن القدر الذي لم يشأ له أن يكون شيخا من أشياخ الأزهر، ولا فلاحا من فلاحي القرية، قد شاء له أن يكون جنديا في صفوف الجيش.
أراد سعيد باشا أن ينهض بالجيش المصري، فأمر أن يكون في صفوفه أبناء المشايخ والأعيان، كيلا يحتقر الجندي في نظر الناس، إذ كانوا لا يرون إلا المستضعفين والفقراء يحشدون ويساقون إلى الجيش ليكونوا عسكره، أما ضباطه وقواده فكان أكثرهم من الشركس.
Unknown page