114

Ahlam Min Abi

أحلام من أبي: قصة عرق وإرث

Genres

قال لي جوني: «سأضرب لك مثلا.» وتابع: «منذ بضعة أيام ذهبت لحضور اجتماع في مقر ولاية إلينوي. وبالطبع إنك تعلم كيف أن هذا المبنى مفتوح من المنتصف، أليس كذلك ... بالإضافة إلى شكل الردهة الكبيرة وما إلى ذلك. حسنا، تصادف تأخر الرجل الذي كان من المفترض أن أقابله، فحدث - وأنا واقف أنظر إلى القاعة من الطابق الثاني عشر ومتمعن في الفن المعماري الذي استخدم في البناء - أن طارت جثة أمام عيني على حين غرة ساقطة على الأرض. كان حادث انتحار.» «إنك لم تذكر لي شيئا بخصوص هذا الأمر.» «نعم، لا أعرف كيف أقول لك، إن هذا الحادث أثر في بصورة كبيرة. تخيل أنني في هذا الارتفاع استطعت سماع صوت ارتطام الجثة بالأرض وكأنني بجانبها تماما. كم كان رهيبا ذلك الصوت! وبعدما سقطت الجثة، وسرعان ما اندفع موظفو المبنى إلى درابزين السلم لرؤية ما حدث. وكنا جميعا ننظر لأسفل فتأكدنا أن الجثة راقدة على الأرض، منكمشة حول نفسها وبلا حراك. وبدأ الناس يصرخون ويغطون أعينهم بأيديهم. لكن الشيء الغريب هو رجوعهم إلى الدرابزين مرة أخرى للنظر من جديد. ثم يصرخون ويغطون أعينهم من جديد. والسؤال هو لماذا يفعلون ذلك؟ وماذا كانوا يتوقعون أن يجدوا عندما عادوا لينظروا في المرة الثانية؟ لكن كما تعلم فالناس غرباء . ونحن لا نستطيع التحكم في أنفسنا في مثل هذه المواقف المروعة ...

على أية حال، جاء رجال الشرطة وطوقوا المكان وأخذوا الجثة بعيدا. وبدأ عمال النظافة في المبنى ينظفون المكان بالمكنسة. هذا دون استخدام أية أدوات خاصة؛ فقط مكنسة وممسحة. كانوا يكنسون حياة. وفي قرابة خمس دقائق انتهت عملية النظافة. وبدا الأمر منطقيا على ما أعتقد ... أقصد أن الأمر بدا وكأنهم ليسوا في حاجة إلى أية معدات أو سترات خاصة أو شيء من هذا القبيل. لكن هذا جعلني أفكر في شعوري لو كنت واحدا من هؤلاء العمال وأنا أنظف المكان من أشلاء أحد الأشخاص. لا بد أن ينظف أحد الأشخاص المكان، أليس كذلك؟ لكن ماذا سيكون شعورك وأنت تتناول عشاءك في المساء بعدما أديت هذه المهمة؟» «من قفز؟» «هذا موضوع آخر يا باراك!» أخذ جوني نفسا من سيجارته وتصاعدت دوائر الدخان من فمه. وقال: «كانت فتاة بيضاء صغيرة، ربما في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها، وكانت تشبه عازفي موسيقى البانك روك، إلى جانب أن شعرها كان أزرق اللون وكانت تضع حلقة في أنفها. بعد فترة تساءلت عما كانت تفكر فيه عندما كانت في المصعد. أقصد أنه لا بد أن أفرادا آخرين كانوا بجانبها وهي في طريقها لأعلى. ربما أمعنوا النظر إليها واستخلصوا أنها غريبة الأطوار، ثم عادوا إلى التفكير في شئونهم الخاصة. هذه الشئون تشمل الترقي الوظيفي أو في مباراة فريق شيكاغو بولز لكرة السلة أو غير ذلك. وفي كل هذه الأثناء كانت الفتاة واقفة بجانبهم، وكل هذا الألم يعتصرها. لا بد أن ما بداخلها كان ألما هائلا لأنها قبل أن تقفز مباشرة حتما كانت تنظر لأسفل وتعرف أن ما ستفعله سيؤلمها.»

أطفأ جوني السيجارة. وقال: «إذن هذا هو ما أقوله يا باراك. تمثلت بانوراما الحياة بأكملها في هذا الحدث. أشياء مجنونة تحدث من حولنا. وتجد نفسك تتساءل: هل تحدث هذه الأشياء في مكان آخر؟ وهل كانت لها سابقة من قبل؟ ألم تسأل نفسك هذه الأسئلة إطلاقا؟»

أعدت ترديد عبارته الأولى: «ما الدنيا إلا مكان.» «انظر هناك! إنه أمر جدي حقا.»

كنا قد وصلنا تقريبا إلى سيارة جوني عندما سمعنا فرقعة صغيرة لم تستمر وقتا يذكر، مثل فرقعة البالون. نظرنا في اتجاه الصوت ورأينا شابا يظهر من أحد الأركان ويتقدم في اتجاهنا في خط مائل. لا أتذكر بوضوح ملامحه وماذا كان يرتدي، مع أني لاحظت أن عمره لا يتخطى الخامسة عشرة. ولا أتذكر إلا أنه جرى بخطوات يائسة ودبت قدماه بحذائه الخفيف على الرصيف بلا صوت تقريبا وتحركت أطرافه الطويلة الرفيعة بقوة وعنف وتضخم صدره كما لو كان يحاول التحرر من حبل وهمي ملفوف حوله.

انبطح جوني على أرض عشبية أمام إحدى الشقق، وسرعان ما حذوت حذوه. وبعد ثوان قليلة ظهر صبيان آخران في الركن نفسه يجريان بأقصى سرعة. لوح أحدهما بمسدس صغير، وكان قصير القامة وإلى حد ما ممتلئ القوام ويرتدي بنطلونا مطويا حول الكاحلين. أطلق هذا الصبي ثلاث طلقات نارية في اتجاه الصبي الأول دون أن يتوقف محاولا أن يصيبه. وبعد أن أدرك أنه لم يصبه مشى ببطء واضعا السلاح تحت قميصه. وبجانبه جاء زميله النحيف الكبير الأذنين.

قال الصبي النحيف: «حقير غبي!» ثم بصق بارتياح، وضحك الاثنان معا قبل الاستمرار في المشي إلى أسفل الشارع، وكان لجسديهما ظلان قصيران ممتلئان على الأسفلت. •••

جاء الخريف التالي والشتاء الذي تلاه. وتعافيت من الشعور باليأس والإحباط الناتج عن حملة الأسبستوس وتعاملت مع قضايا أخرى وقادة آخرين. وساعد وجود جوني في التخفيف عني من ضغط العمل وكانت ميزانيتنا مستقرة، وبذلك فإن ما أضعته في حماسة الشباب استطعت تعويضه بالخبرة العملية. وفي الواقع ربما كانت الألفة المتزايدة مع المكان - إلى جانب خبرة الزمان - هي التي منحتني الشعور بأن هناك شيئا مختلفا يحدث لأطفال الجانب الجنوبي في ذلك الربيع عام 1987م؛ جرى تخطي حدود خفية، وعادت تظهر صفحة من صفحات القبح.

لم يكن هناك شيء محدد استطعت الإشارة إليه أو إحصائيات حاسمة، فلم يكن هناك شيء مختلف عن حوادث إطلاق النار من السيارات المتحركة ، وصافرات عربات الإسعاف، والأصوات الصادرة ليلا من الأحياء التي هجرها ساكنوها وتركوها أرضا خصبة للمخدرات وحروب العصابات والسيارات الهاربة بسرعة الريح، والتي نادرا ما كانت الشرطة أو الصحافة تتجرأ على دخولها حتى يعثر على جثة ملقاة على الرصيف، وبرك الدم المبعثر بغير انتظام. في أماكن مثل ألتجيلد تتناقل سجلات السجون من الآباء إلى الأبناء على مدار أكثر من جيل، وفي أوائل أيامي في شيكاغو رأيت جماعات صغيرة من الصبية - في الخامسة أو السادسة عشرة من عمرهم - يعيشون في زوايا شارع ميشيجان أو شارع هولستيد، مغطين رءوسهم وأعناقهم، وأحذيتهم مفكوكة الرباط ويضربون بأرجلهم الأرض في إيقاع غير منظم في شهور السنة الباردة، وفي الصيف يرتدون قمصانا، ويتصلون من الهواتف العامة على من يتصل بهم على أجهزة الاستدعاء التليفوني الخاصة بهم، على أن هذه الجماعة الصغيرة سرعان ما ينفرط عقدها عندما تعبر سيارات الشرطة بجانبهم بصمتها المباغت.

كان التغير الذي شعرت به أكثر من تغير في الحالة العامة، مثله مثل الشعور بالكهرباء الصادرة من عاصفة على وشك أن تهب. وقد شعرت به وأنا عائد إلى المنزل ذات مساء عندما رأيت أربعة صبية طوال القامة يمشون بجانب مبنى سكني محاط بالأشجار بكسل شديد ويقطعون صفا من الشتلات الصغيرة التي كان زوجان مسنان قد انتهيا للتو من زراعتها أمام منزلهما. شعرت به كلما نظرت إلى أعين الشباب الجالسين على كراسي متحركة الذين بدءوا يظهرون في الشوارع في هذا الربيع؛ هؤلاء الشباب الذين أصابهم الشلل وهم في ريعان الشباب والذين إذا نظرت إلى أعينهم وجدتها خالية من أي دليل على التأثر بحالهم، كانت نظرات أعينهم هادئة وقاسية وتخيف أكثر مما تلهم.

Unknown page