كان سباعي حريصا دائما أن يحضر كل بقرة أو جاموسة عنده تلد. وتلك خصلة صحبته وصحبها منذ كان طفلا في رعاية أبيه. وقد ظلت فرحته بولادة البهيمة التي كان يحسها وهو ذلك الطفل كما هي لم تتغير. وإن كان في طفولته يساعد الكلاف إلا أنه كف عن ذلك منذ شب عن الطوق، وأصبح يشرف على زراعة أبيه ، وهو اليوم يضع كرسيا ويجلس قريبا من الذين يقومون بتوليد البقرة أو الجاموسة حتى تتم الولادة فينصرف إلى البيت. وكان في جلسته هذه ينسى كل مشاغله التي أصبحت حين كبر مخاوف، ولا يفكر إلا في مولد العجل أو العجلة إن كانت الوالدة بقرة، والفحل أو الفحلة إن كانت الوالدة جاموسة. وكانت البلدة كلها تعرف عنه هذه العادة؛ فعادات كل أبناء القرية معروفة لبعضهم البعض؛ فالقرية مهما تتسع إنما هي بيت كبير، كل إنسان يعرف كل شيء عن كل إنسان فيها، فما الشأن إذا كانت تلك هي عادة أغنى أبناء القرية وكبير طغاة المنطقة؟
وقدر الذين يجسون البهائم، وهم أطباء الولادة بالقرية، أن الجاموسة المفضلة عند سباعي ستلد في نفس اليوم الذي حدده للاحتفال بحصول ابنه على الليسانس.
وفكر سباعي قليلا ثم قال لمحدثه الذي سيقوم بتوليد الجاموسة: إذن فاسمع، عليك أنت أن تظل إلى جانبها لا تنتقل، وحين تحس أن الموعد اقترب أرسل لي أجيء إليك. وسيكون المدعوون كثيرين، ولن يلتفت أحد لغيابي.
وحل يوم الاحتفال ولم تكن الجاموسة قد ولدت بعد، وتقاطر المدعوون وكان سباعي لم يترك أحدا إلا دعاه وفي المقدمة المحافظ، ومدير الأمن، والمأمور، وأعضاء مجلس الأمة، والعمد، والأعيان. لقد أراد أن يعلن للجميع أن سباعي الذي لم ينل شهادة استطاع ابنه أن يحصل على الليسانس وبدرجة جيد جدا. الوحيد الذي كان يجب أن يكون موجودا ولم يدع هو شعبان؛ فما كان إلى دعوته من سبيل؛ فقد كان قد سافر إلى صهره الأمير مع زوجته وأولاده، وأقام هناك إقامة غير عائد.
وجاء المحتفل به ليرى القرية التي لم يكن رآها منذ كان صبيا يافعا سعى إلى القرية فرحا ليشهد الانتخابات، وانصرف عنها مصطحبا الحيرة والقلق مما رأى في أعين الرجال وهم يحتفلون بأبيه.
جلس صلاح بين القوم وراح ينظر. لم تكن عديلة معه فقد ذهبت هي وأمه وعماته إلى مكان الحريم، فالريف لم يعترف بعد باختلاط الجنسين. رأى في عيون القوم المدعوين وفي جباههم تعبيرا آخر غير الذي شهده من الناخبين. هؤلاء لا يخافون أباه، ولكنهم أيضا خائفون. كلهم مرتعد في داخله تتضح الرعدة في حديثه؛ فالحوار يبدأ، ولكنه ينقطع من تلقاء نفسه إذا أدى إلى موضوع عام، وكل حوار بين الرجال لا بد أن يؤدي إلى موضوع عام، ولكل منهم رأي، وربما كانوا متفقين جميعا على رأي، ولكن هيهات لرأيهم أن يعلن أو يخرج من منطقة الهمس الداخلي إلى منطقة الحديث. أشدهم رعبا المحافظ، ويليه مدير الأمن، ويليه المأمور. ويعجب صلاح كيف يحافظ على الأمن من لا أمن له؟ كيف يكون مسئولا عن أمن الناس وهو نفسه غير آمن على نفسه؟ ويل للناس إذا خاف الناس، وويل للناس كل الويل إذا كانت نفوسهم تخاف من نفوسهم.
أما أعضاء مجلس الأمة فهم يتلهون بكل حديث فارغ، ويختارون طريق الحديث حتى لا يصل بهم إلى ما يرهبون. وقد وجد بعضهم في الاجتماع فرصة ذهبية يقترب بها إلى العمد والأعيان؛ فكل نائب فيهم ليس يدري الانتخابات القادمة متى تكون.
حابل ونابل كما يقول العرب، وقوم يجتمعون وينفضون يقولون الكثير من الكلام ولا يقولون شيئا. وصلاح ذاهل واع مندهش مفكر، لا يفوته شيء مما حوله. وتزيد قوة الملاحظة ألما ورفضا، وخلا بأستاذه ياسين: أهؤلاء ناس؟ - مجتمعك. - أكانوا كذلك دائما؟ - المجتمعات التي عرفتها حين كنت في مثل سنك لم تكن متعرضة لما يتعرض له هؤلاء. - أليس فيهم رجل؟ - كلهم في داخلهم رجال، ولكن الإرهاب يطمس الرجولة، فالتمس لهم العذر، ولا تعنف بهم في حكمك. - ماذا تقول أنفسهم؟ - إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي. - وماذا لهم عند الكلب؟ - الحياة. - الموت خير منها. - نادر من يقول هذا أو يشعر به. - تهون الحياة مع الذل. - ومع ذلك فهم يرون أنفسهم على كرامة. - من أين يأتيهم هذا الشعور؟ - كل منهم لبعض الناس عندهم حاجات. - فكلهم كلاب. - ويجدون من يقول لهم يا سيدي.
وانقطع الحوار، وهوم الصمت الذاهل؛ فقد انطلقت في أسماع الحاضرين ثلاث رصاصات. أرصاص والمحافظ والمدير والمأمور ورجال الأمن جميعا هنا؟! ما هذا؟ ما هذا؟ ما هذا؟
وجاء الجواب: قتل سباعي. من القاتل؟ سلم نفسه. من هو؟ حسن عبد الحميد أبو ديدة. من حسن عبد الحميد أبو ديدة؟!
Unknown page