ويختلف «روبرت أوين»
2
عن بعض من ذكرناهم من حيث إنه لم يستسلم للخيال كل الاستسلام، وإنه قصد إلى إيجاد هيئة اجتماعية تتسير إقامتها، فقد عاش هو نفسه بين عمال، وأدار المصانع وعرف تلك العلاقة بين الآلة والإنسان وإمكان جعلها وسيلة للإصلاح أو للإفساد. ولم يكتف بالكتابة والشرح بل عمد إلى العمل؛ فأسس جملة مصانع أجراها وفق آرائه بالاشتراك مع «بنتام» المشرع الشهير، وانتهت تجاربه العلمية هذه بالإخفاق.
ولكن أوين، وكذلك المفكر الفرنسي «سان سيمون» كلاهما دعا أو - بالأحرى - نحا نحو الأفكار الاشتراكية التي نعرفها الآن، وكان حاصل دعوة سان سيمون أن تمزج التجارة، أو المعاملة بين السيد والعامل، بالأخلاق؛ فلا يعمد الإنسان إلى أن يربح كل ما يمكن ربحه، بل يقنع بربح معتدل، ولا يصنع إلا ما فيه المصلحة العامة، وهو بين هذا وذلك يرى نفسه مضطرا إلى أن يرى مساوئ الامتلاك الفردي للعقارات المغلة، فينحو على الرغم منه إلى التفكير الاشتراكي، وأما روبرت أوين، وهو واضع لفظة «الاشتراكية» المستعملة الآن، فتدلنا أعماله على الأسس التي قام عليها التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر.
كان أوين رجلا غنيا له مصنع في «منشستر» به نحو خمسمائة عامل يغزلون القطن، وما زال دائبا في عمله حتى اتسعت أعماله وراج غزله وزادت ثروته، ولكن الإثراء لم يكن همه الأكبر؛ لأنه كان يهتم بأحوال العمال والترفيه عنهم؛ فإنه عمد عندما أثرى إلى تأسيس مصنع كبير في نيولانارك بإنجلترا كان به 3000 عامل، وكان بناء المصنع مستوفيا كافة شروط الصحة والجمال، ومع أن استخدام الصبيان كان جائزا في ذلك الوقت، وكانت أجورهم قليلة، فإنه رفض استخدامهم، وكان يخفض ساعات العمل إلى أقل مقدار ممكن ويزيد الأجور إلى أعلى مقدار، وكان يمنح أجورا وقت العطلة الإجبارية التي تنشأ من الكساد، وكان في أوقات فراغه يؤلف في إصلاح المجتمع، ومن أسماء هذه المؤلفات يمكن للقارئ أن يقف على شيء من أفكاره؛ فمنها مقالات عن «تكون الأخلاق الإنسانية» و«رأي جديد في المجتمع» ... إلخ إلخ، وكانت كتاباته هذه سببا للفت الأنظار إلى الأحوال السيئة التي يعيش فيها العمال؛ حيث بعث البرلمان البريطاني إلى سن تشريع خاص بحماية الأطفال من العمل في المصانع.
وذاعت شهرة أوين، فكان «بنتام» المشرع الإنجليزي الشهير من أصدقائه، وله أسهم في مصانعه، وزاره الغرندوق نقولا الذي صار بعد ذلك قيصرا على روسيا، وكان والد الملكة فيكتوريا صديقا له ويكثر من زياراته، وبلغت شهرته الولايات المتحدة، فدعاه بعضهم إلى إنشاء مصنع يشبه مصنع نيولانارك، فسافر إليها وأسس جملة مصانع، ولكن تراكم الأعمال عليه لم يتح له النجاح فيها.
وعاد أوين إلى إنجلترا فأرصد نفسه للتفكير الاشتراكي، وحارب الامتلاك الفردي، ونسب إليه جميع الشرور الفاشية في زمنه، ورأى المسئولون أن الجمهور أخذ يحبه، والصحف تبسط صدورها لتكتب عنه وله، فعمدوا إلى مركز حساس وهو الدين، كما يفعل الرجعيون عندنا مع المجددين، فما زالوا به يتهمونه بالكفر والإلحاد حتى صد الناس عنه.
أراد أوين أن يحصر الربح في العامل الذي ينتج السلعة، فلا يتجاوزه إلى التاجر أو الوسيط أو صاحب المصنع، ورأى أن أمثل الطرق لذلك، ولتحقيق الاشتراكية أن يعمد العمال إلى تأسيس المصانع، لكل منهم مقدار من الأسهم، وأن يفتحوا الحوانيت لبيع مصنوعاتهم بأنفسهم. ويشترون المادة الخام للمصنع ثم يبيعونها مصنوعة للجمهور: «فيتفادون تلك الأرباح التي يحصل عليها صاحب المصنع أو الوسيط من عرق جبينهم»، وقد عملت هذه الفكرة على رفع شأن العامل، وكانت بداية الجمعيات التعاونية في العالم، ومن أغرب ما فكر فيه أوين إيجاد بنكنوت ترقم عليه القيمة بساعات العمل وليس بالنقود المتداولة؛ فقد رأى أن قيمة النقود تختلف، فتزيد أو تنقص تبعا لغلاء القروش؛ فالجنيه الذي نشتري به الآن مائة رغيف قد لا نشتري به في الغد سوى 95 رغيفا، وقد نشتري به 105 أرغفة فاخترع بنكنوتا يبين زمن العمل بالساعات، والساعة لا تتغير في أي وقت وقد كتب على هذا البنكنوت الذي نشره باسمه، هذه العبارة: سلم حامله بضائع بدلا من قيمة عشرين ساعة بأمر روبرت أوين. •••
ولننتقل الآن إلى خيالي مشهور هو «جيمس بكنجهام» عاش أكثر أيامه في الشرق، وكان يحرر عدة صحف إنجليزية في الهند، وكان مع ذلك جوابة آفاق رحالة لا يستقر، فزار عدة أقطار وهو ينظر ويتبصر ثم وضع كتابا عن «الشرور الأهلية والعلاجية العملية وترسيم لبلدة أنموذجية»، وظهر هذا الكتاب سنة الثورات التي شملت أوروبا كلها تقريبا، وهي سنة 1848، وفي هذا ما يدلنا على البواعث التي تبعث هذه الأخيلة في عقول المفكرين.
وما هي هذه البلدة الأنموذجية؟ هي بلدة تدعى «فكتوريا» يؤسسها أفراد مشتركون على طريقة الشركة المساهمة المحدودة المسئولية، وتحتوي هذه البلدة على جميع التحسينات الجديدة: «من حيث الصنع والترسيم وصرف المجاري والتهوية والبناء والماء والضوء وسائر الممتعات»، ومساحتها ميل مربع، وعدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف نفس، وعلى طرف المدينة تؤسس المصانع، ومصنوعاتها ملك للشركة لا للأفراد الذين يصنعونها، وحول المدينة ضيعة تبلغ عشرة آلاف فدان هي ملك للشركة أيضا، كما أن البيوت وسائر العقارات لا يملكها الأفراد وإنما تملكها الشركة، وهذه الشركة تستغل كل هذه الأشياء وتوزع الأرباح على الأفراد بنسبة ما لهم من أسهم فيها، ولا يجوز الاشتراك فيها لأحد ما لم يكتتب على الأقل بعشرين سهما، ويثبت حسن نيته للمدينة، ويكتب على نفسه عهدا يشرط على نفسه فيه الامتناع عن تناول الخمور أو العقاقير أو التبغ.
Unknown page