Aḥkām al-ṣiyām

أحكام الصيام

Editor

محمد عبد القادر عطا

Publisher

دار الكتب العلمية

Publication Year

1406 AH

Publisher Location

بيروت

أحكام الصيام

للإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية

تحقيق

محمد عبد القادر عطا

دار الكتب العلمية

بيروت - لبنان

1

الطبعة الأولى

١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م

بيروت - لبنان

جميع الحقوق محفوظة

لدار الكتب العلمية - بيروت

يطلب من:

دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
هاتف: ٨٠١٣٣٢ - ٨٠٥٦٠٤ - ٨٠٠٨٤٢
ص.ب: ١١/٩٤٢٤
تلكس: Nasher 41245 Le

2

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾.

البقرة: ١٨٥

﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾

البقرة: ١٨٣

صدق الله العظيم

3

-

4

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: قال تعالى: ﴿وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ البقرة: 184، فالصيام عبادة وثيقة الصلة بما يرمي إليه الإسلام من النواحي الاجتماعية البعيدة المدى. وإن وجدنا صلة الصيام بتلك الأهداف تأتي من ناحية لم يألفها الناس، فلا غرابة في هذا ما دمنا لنا هدف محدد هو تعاليم القرآن الكريم نتخذها رائداً لنا في هذا الصدد.

فمن حكمة الصيام: قمع النفس وتهذيبها بالجوع والظمأ، فقد قال رسول الله ﷺ: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش)).

والصيام خير معين على تقوى المولى تبارك وتعالى والخشية منه، ويحثنا على شكر نعم الله سبحانه.

ولقد عنى الفقهاء ببيان أحكام الصيام، باعتباره ركناً أساسياً من الأركان التي بني الإسلام عليها. ومن هؤلاء العلماء الإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية.

ابن تيمية في سطور:

هو أحمد تقي الدين، أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد

5

الحليم، بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام، ابن أبي محمد عبد الله، ابن أبي القاسم الخضر، ابن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، الملقب بابن تيمية.

ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة هجريّاً، في مدينة حران، ثم هاجر مع أسرته إلى دمشق بسبب الغزو التتري لمدينة حران.

نشأ ابن تيمية نشأة علمية، فكان أبوه على قدر كبير من العلم، هذا فضلاً على أن جده مجد الدين كان عالماً جليلاً من علماء الفقه.

كانت حياته مليئة بالأحداث التي لمع من خلالها اسمه، فقد توفي والده سنة ٦٨٢ وكان في الحادي والعشرين من عمره، فتولى التدريس في الجامع الكبير بدمشق بدلاً من والده.

لقد خلف لنا الإمام العديد من المؤلفات في شتى المجالات، منها ما هو في الفقه والأصول، وما هو في التفسير وغيرها، حتى أنه ورد في الدرر الكامنة أنها تزيد عن أربعة آلاف كراسة.

وقد توفي الإمام تقي الدين بعد حياة حافلة كانت نهايتها في سجن قلعة دمشق، وذلك في العشرين من شوال سنة ٧٢٨ هـ. (١)

الكتاب ومنهج التحقيق:

أصل هذا الكتاب من مجموع الرسائل والمسائل للإمام ابن تيمية، ويقع في الجزء الخامس من صفحة ٩٨ إلى آخر هذا الجزء.

وقد قمت بنسخ الكتاب من المطبوعة، نشر مكتبة ابن تيمية، ومراجعتها على أصولها المخطوطة، وقمت بإعادة ترتيب الكتاب، وفصل الفتاوى وإلحاقها في

(١) أنظر ترجمته في: فوات الوفيات ٣٥/١، ٤٥، والمنهج الأحمد (خط)، والدرر الكامنة ١٤٤/١، والبداية والنهاية ٢٧١/٩، ودائرة المعارف الإسلامية ١٠٩/١، والأعلام للزركلي ١٤٤/١، ابن تيمية حياته وعصره، للإمام أبو زهرة ..

6

نهاية الكتاب. وخرجت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ووضع عناوين للكتاب ليسهل على القارىء فهمه وتناوله وليتم النفع به.

والله أسأل أن يخلص عمله لوجهه، وأن ينتفع به العالم الإسلامي، وأسأله الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ به من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت به وما لم أعلم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

محمد عبد الخالق عبد القادر عطا

٤ ذي القعدة ١٤٠٥
الموافق ٢١ يوليو (تموز) ١٩٨٥

7

-

8

بسم الله الرحمن الرحيم

الأهلّة

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وجعله تبياناً لكل شيء، وذكرى لأولي الألباب. وأمرنا بالاعتصام به إذ هو حبله الذي هو أثبت الأسباب، وهدانا به إلى سبل الهدى ومناهج الصواب، وأخبر فيه أنه: ﴿جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾(١).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بجوامع الكلم، والحكمة وفصل الخطاب. صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة باقية إلى يوم المآب.

أما بعد: فإن الله قد أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم، ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر، التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أنزلها الله على موسى في التوراة، وإن كانت الكلمات التي أُنزلت علينا أكمل وأبلغ؛ ولهذا قال الربيع ابن خيثم: من سره أن يقرأ كتاب محمد ﷺ الذي لم يفض خاتمه بعده، فليقرأ آخر سورة الأنعام:

﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾(٢) الآيات.

وأمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات،

(١) سورة يونس، آية: ٥ (٢) سورة الأنعام، آية: ١٥١

9

وأخبر رسوله أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. وذكر أنه جعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها، ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون.

وقال تعالى:

﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾(٣)

فأمره أن لا يتبع أهواءهم عما جاءه من الحق، وإن كان ذلك شرعاً أو طريقاً لغيره من الأنبياء فإنه قد جعل لكل نبي سنة وسبيلاً، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، فإذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره، فكيف بما لا يعلم أنه جاءت به شريعة، بل هو طريقة من لا كتاب له.

وأمره وإيانا في غير موضع أن نتبع ما أنزل إلينا، دون ما خالفه فقال:

﴿المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه؛ لتنذر به، وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلاً ما تذكرون﴾(٤)

وبيّن حال الذين ورثوا الكتاب فخالفوه، والذين استمسكوا به فقال:

﴿فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا﴾ إلى قوله: ﴿والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين﴾(٥)

(٣) سورة المائدة، آية: ٤٨ (٥) سورة الأعراف، آية: ١٦٩، ١٧٠

(٤) سورة الأعراف، آية: ٢

10

وقال: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا﴾ (٦) الآيات.

وقال: ﴿يا أيها النبي اتق الله، ولا تطع الكافرين والمنافقين، إن الله كان عليماً حكيماً. واتبع ما يوحى إليك من ربك، إن الله كان بما تعملون خبيراً﴾ (٧).

وقال: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً﴾ (٨) وحبل الله كتابه، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال: ﴿واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله﴾ (٩).

إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي أجمع المسلمون على اتباعها. وهذا مما لم يختلف المسلمون فيه جملة.

ولكن قد يقع التنازع في تفصيله، فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في ((مسائل الاجتهاد))، وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين أو منافقون أو سماعون للمنافقين.

فقد أخبر الله سبحانه أن فينا قوماً سماعين للمنافقين يقبلون منهم.

كما قال: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم﴾ (١٠). وإنما عداه باللام، لأنه متضمن معنى القبول والطاعة، كما قال الله على لسان عبده: ((سمع الله لمن حمده)) أي استجاب لمن حمده.

وكذلك: ﴿سماعون لهم﴾ أي: مطيعون لهم.

فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم؟!

(٦) سورة الأنعام، آية: ١٥٥.

(٧) سورة الأحزاب، آية: ١. (٩) سورة يونس، آية: ١٠٩.

(٨) سورة آل عمران، آية: ١٠٣. (١٠) سورة التوبة، آية: ٤٧.

11

وكذلك أخبر عمن يظهر الانقياد لحكم الرسول ﷺ حيث يقول:

﴿لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك﴾ إلى قوله ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت﴾(١١).

فإن الصواب أن هذه اللام لام التعدية، كما في قوله: ﴿أكالون للسحت﴾ . أي: قائلون للكذب، مريدون له وسامعون مطيعون لقوم آخرين غيرك، فليسوا مفردين لطاعة الله ورسوله. ومن قال: إن اللام لام كي، أي: يسمعون ليكذبوا، لأجل أولئك، فلم يصب. فإن السياق يدل على أن الأول هو المراد.

وكثيراً ما يضيع الحق بين الجهال الأميين، وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق كما أخبر سبحانه عن أهل الكتاب حيث قال:

﴿أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون﴾ إلى قوله: ﴿ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني﴾(١٢) الآية.

ولما كان النبي ﷺ قد أخبر: ((أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))(١٣) وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه، فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به، أو أمر به. وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول، هو غاية الدين.

ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين، أو الكفار، مع علم أولئك بما

(١١) سورة المائدة، آية: ٤٢

(١٢) سورة البقرة، آية: ٧٥.

(١٣) أخرجه البخاري في صحيحه، الباب ١٤ من كتاب الاعتصام. ومسلم في صحيحه، ٦ من كتاب العلم. وابن ماجة في سننه، الباب ١٧ من كتاب الفتن. وأحمد بن حنبل في مسنده ٢/ ٣٢٧، ٤٥٠، ٥١١، ٥٢٧، ٨٤/٣، ٨٩، ٩٤، ١٢٥/٤.

12

لم يعلمه الأميون، فإمّا أن تضل الطائفتان، ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين، ويصيروا في طرفي النقيض. وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ.

كما قال تعالى:

﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (١٤).

ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف. كتبها، وتغيير شرائعها مطلقاً؛ لما ينطق الله به القائمين بحجة الله وبيناته، الذين يحيون بكتاب الله الموتى، وينصرون بنوره أهل العمي، فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛ لكيلا تبطل حجج الله وبيناته.

سبب الخلاف في رؤية الهلال:

وكان مقتضى تقدم هذه ((المقدمة)) إني رأيت الناس في شهر صومهم، وفي غيره أيضاً منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب: من أن الهلال يرى، أو لا يرى. ويبني على ذلك إما في باطنه، وإما في باطنه وظاهره ..

حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب: إنه يرى. أو لا يرى. فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه. وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله. فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه. وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله. فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب.

فإن الآية تتناول حكام السوء، كما يدل عليه السياق حيث يقول:

﴿ سماعون للكذب أكالون للسحت﴾ (١٥).

وحكام السوء يقبلون الكذب ممن لا يجوز قبول قوله من مخبر أو شاهد.

(١٤) سورة الحجر، آية: ٩ (١٥) سورة المائدة، آية : ٤٢

13

ويأكلون السحت من الرشا وغيرها. وما أكثر ما يقترن هذان.

وفيهم من لا يقبل قول المنجم، لا في الباطن ولا في الظاهر؛ لكن في قلبه حسيكة من ذلك، وشبهة قوية لثقته به: من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك، لا سيما إن كان قد عرف شيئاً من حساب النيرين واجتماع القرصين، ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات، وسبب الاهلال والابدار والاستتار والكسوف والخسوف.

فأجرى حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية هذا المجرى.

ثم هؤلاء الذين يخبرون من الحساب، وصورة الأفلاك وحركاتها أمراً صحيحاً: قد يعارضهم بعض الجهال من الأميين المنتسبين إلى الإيمان، أو إلى العلم أيضاً، فيراهم قد خالفوا الدين في العمل بالحساب في الرؤية، أو في اتباع أحكام النجوم في تأثيراتها المحمودة والمذمومة، فيراهم لما تعاطوا هذا - وهو من المحرمات في الدين - صار يرد كل ما يقولونه من هذا الضرب.

ولا يميز بين الحق الذي دل عليه السمع والعقل، والباطل المخالف للسمع والعقل، مع أن هذا أحسن حالاً في الدين من القسم الأول. لأن هذا كذب بشيء من الحق، متأولاً جاهلاً من غير تبديل بعض أصول الاسلام. والضرب الأول قد يدخلون في تبديل الاسلام.

الدليل على أن المعتبر في الصيام الأهلة لا الحساب:

فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز. والنصوص المستفيضة عن النبي ﷺ بذلك كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل

14

على الرؤية صام وإلا فلا.

وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه. فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم.

وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية.

وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام، وقد برأ الله منها جعفراً وغيره.

ولا ريب أن أحداً لا يمكنه مع ظهور دين الإسلام أن يظهر الاستناد إلى ذلك. إلا أنه قد يكون له عمدة في الباطن في قبول الشهادة وردها، وقد يكون عنده شبهة في كون الشريعة لم تعلق الحكم به، وأنا إن شاء الله أبين ذلك وأوضح ما جاءت به الشريعة: دليلاً وتعليلاً، شرعاً وعقلاً.

الدليل الأول:

قال الله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج﴾ (١٦) فأخبر أنها مواقيت للناس، وهذا عام في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تمييزاً له؛ ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر شهور الحول. فيكون علماً على الحول، كما أن الهلال علم على الشهر.

ولهذا يسمون الحول حجة، فيقولون: له سبعون حجة، وأقمنا خمس حجج.

فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداءً أو سبباً من العبادة. وللأحكام التي تثبت بشروط العبد. فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج، ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة. وهذه الخمسة في القرآن.

(١٦) سورة البقرة آية: ١٨٩.

15

الدليل الثاني:

قال الله تعالى: ﴿شهر رمضان﴾ (١٧).

وقال تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات﴾ (١٨).

وقال تعالى: ﴿للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر﴾ (١٩).

وقال تعالى: ﴿فصيام شهرين متتابعين﴾ (٢٠).

وكذلك قوله: ﴿فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ (٢١).

وكذلك صوم النذر وغيره. وكذلك الشروط من الأعمال المتعلقة بالثمن، ودين السلم، والزكاة، والجزية، والعقل، والخيار، والأيمان، وأجل الصداق، ونجوم الكتابة، والصلح عن القصاص، وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما.

الدليل الثالث:

قال الله تعالى: ﴿والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم﴾ (٢٢)

(١٧) سورة البقرة آية: ١٨٥ (٢٠) سورة النساء، آية: ٩٢

(١٨) سورة البقرة آية: ١٩٧ (٢١) سورة التوبة، آية: ٢

(١٩) سورة البقرة آية: ٢٢٦ (٢٢) سورة يس: آية: ٣٩

16

﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل؛ لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق﴾ (٢٣).

فقوله: ﴿لتعلموا﴾، متعلق والله أعلم بقوله: ﴿وقدره﴾ لا يجعل؛ لأن كون هذا ضياء. وهذا نوراً لا تأثير له في معرفة عدد السنين والحساب؛ وإنما يؤثر في ذلك انتقالهما من برج إلى برج. ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر، ولا سنة، وإنما علق ذلك بالهلال. كما دلت عليه تلك الآية، ولأنه قد قال :

﴿إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم﴾(٢٤)

فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر، والشهر هلالي بالاضطرار. فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال.

حكم الشرائع السابقة وتبدلها:

وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضاً إنما علقت الأحكام بالأهلة، وإنما بدل من بدل من اتباعهم، كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين، وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية، وكما تفعله النصارى في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية، وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح، وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم.

فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط، ولهم اصطلاحات في عدد شهورها : لأنها وإن كانت طبيعية، فشهرها عددي وضعي.

ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين، وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب.

(٢٣) سورة يونس، آية : ٥. (٢٤) سورة التوبة، آية: ٣٦.

17

وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار. ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، ولهذا سموه هلالاً؛ لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان، إما سمعاً وإما بصراً.

كما يقال: أهل بالعمرة، وأهل بالذبيحة لغير الله إذا رفع صوته، ويقال لوقع المطر: الهلل. ويقال: استهل الجنين إذا خرج صارخاً. ويقال: تهلل وجهه إذا استنار وأضاء.

وقيل: إن أصله رفع الصوت. ثم لما كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته سموه هلالاً، ومنه قوله:

يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر

وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال.

فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس، ولا يشرك الهلال في ذلك شيء، فإن اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال: أمر خفي لا يعرف لا بحساب ينفرد به بعض الناس، مع تعب وتضييع زمان كثير، واشتغال عما يعني الناس، وما لا بد له منه، وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.

اصطلاحات الناس في الشهر والحول وغيره:

وكذلك كون الشمس حاذت البرج الفلاني، أو الفلاني، هذا أمر لا يدرك بالأبصار. وإنما يدرك بالحساب الخفي الخاص المشكل الذي قد يغلط فيه، وإنما يعلم ذلك بالإحساس تقريباً.

فإنه إذا انصرم الشتاء، ودخل الفصل الذي تسميه العرب الصيف، ويسميه الناس الربيع، كان وقت حصول الشمس في نقطة الاعتدال، الذي هو أول الحمل. وكذلك مثله في الخريف. فالذي يدرك بالإحساس الشتاء والصيف، وما بينهما من الاعتدالين تقريباً. فأما حصولها في برج بعد برج فلا يعرف إلا

18

بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره. مع قلة جدواه.

فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال.

وقد انقسمت عادات الأمم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية. وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة: إما أن يكونا عدديين، أو طبيعيين أو الشهر طبيعياً، والسنة عددية، أو بالعكس.

أيام السنة القمرية والشمسية:

فالذين يعدونهما: مثل من يجعل الشهر ثلاثين يوماً، والسنة اثني عشر شهراً .. والذين يجعلونهما طبيعيين مثل من يجعل الشهر قمرياً، والسنة شمسية. ويلحق في آخر الشهور الأيام المتفاوتة بين السنتين.

فإن السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً. وبعض يوم خمس أو سدس. وإنما يقال فيها ثلاثمائة وستون يوماً جبراً للكسر في العادة - عادة العرب في تكميل ما ينقص من التاريخ في اليوم والشهر والحول.

وأما الشمسية فثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وبعض يوم : ربع يوم.

ولهذا كان التفاوت بينهما أحد عشر يوماً إلا قليلاً: تكون في كل ثلاثة وثلاثين سنة وثلث سنة : سنة .

ولهذا قال تعالى :

﴿ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً﴾ (٢٥).

قيل: معناه ثلاثمائة سنة شمسية. (وازدادوا تسعاً) بحساب السنة القمرية، ومراعاة هذين عادة كثير من الأمم: من أهل الكتابين بسبب تحريفهم، وأظنه كان عادة المجوس أيضاً .

وأما من يجعل السنة طبيعية، والشهر عددياً. فهذا حساب الروم والسريانيين

(٢٥) سورة الكهف، آية: ٢٥.

19

والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين. من يعد شهر كانون ونحوه عدداً، ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس.

فأما القسم الرابع فبأن يكون الشهر طبيعيّاً، والسنة عددية، فهو سنة المسلمين، ومن وافقهم، ثم الذين يجعلون السنة طبيعية لا يعتمدون على أمر ظاهر كما تقدم؛ بل لا بد من الحساب والعدد. وكذلك الذين يسيرون الشهر طبيعياً. ويعتمدون على الاجتماع لا بد من العدد والحساب. ثم ما يحسبونه أمر خفي ينفرد به القليل من الناس، مع كلفة ومشقة وتعرض للخطأ.

فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور؛ لأنه وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقاً إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.

وأما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء، فكان لا بد فيه من الحساب والعدد، فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس، وتكون السنة مطابقة للشهور، ولأن السنين إذا اجتمعت فلا بد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها، فكان عدد الشهور موافقاً لعدد البروج، جعلت السنة اثني عشر شهراً بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية، فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية.

وبهذا كله يتبين معنى قوله:

﴿وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾(٢٦).

فإن عدد شهور السنة، وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل. وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال

(٢٦) سورة يونس، آية: ٥.

20