Ahkam al-Hadith al-Da'if - Within 'Aathar al-Muallimi'
أحكام الحديث الضعيف - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
علي بن محمد العمران
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة الثامنة
أحكام الحديث الضعيف
15 / 151
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد، فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف، جمعتُها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه؛ فنَسَب بعضُهم إلى كبار الأئمة الاحتجاجَ به، ونَسَب غيرُه إلى الإجماع استحبابَ العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسّع كثيرٌ من الناس في العمل به، حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدَثات، وأكَّدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات.
بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول. ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات.
وأنكر جماعةٌ جواز العمل بالضعيف مطلقًا، حتى قال بعضهم كما نقله ابن حجر الهيتمي في "شرح الأربعين النووية" (^١): "إن الفضائل إنما تُتلقى من الشارع، فإثباتها بما ذُكِر اختراعُ عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله".
ومَن تأمل هذه العبارة وجدها تُنبئ أن إثبات الفضائل بالضعيف شرك؛ لأن شَرْع ما لم يأذن به الله كذلك، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١]. وسيأتي تقرير هذا المعنى إن شاء الله تعالى (^٢).
_________
(^١) (ص ٦).
(^٢) (ص ١٧٤ - ١٧٥).
15 / 153
ومن المانعين القاضي أبو بكر ابن العربي، والمحقق الشاطبي صاحب [ص ٢] كتاب "الموافقات" في أصول الفقه وغيره.
ثم نصّ بعضُ الفقهاء الشافعية كالزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" (^١) والخطيب الشربيني في "شرح المنهاج" (^٢) أن العمل بالحديث الضعيف جائز فقط لا مستحبّ، وردّه بعضهم كابن قاسم في "حواشيه على التحفة" (^٣) وأثبت الاستحباب. هذا، وقد نصّ النوويّ نفسُه في كتاب "الأذكار" (^٤) على الاستحباب.
واستشكل جماعةٌ القولَ بالجواز أو الاستحباب مع الإجماع على أن الضعيف لا يثبت به حكم، والجواز والاستحباب من الأحكام الخمسة.
وأُجيب من طرف القائلين بالجواز والاستحباب بأجوبةٍ عامّتها من قبيل ما عُرِف في الجدليّات من المطاولة وتشتيت ذهن الناظر، ليقْنَع بالتقليد الصِّرْف. وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلة.
وذلك أنني ألَّفت كتابًا (^٥) نبَّهتُ في مقدمته على الأمور التي يسلكُها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحةٍ لذلك، وذكرتُ من جملتها العمل بالضعيف، وحاولت أن أحقِّق الكلامَ فيه، فطال الكلام جدًّا قبل أن أستوفي البحث كما أحبّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة.
_________
(^١) في تخريج أحاديث فتح العزيز، لم يطبع بعد.
(^٢) (١/ ٦٢).
(^٣) (١/ ٢٤٠).
(^٤) (ص ٨).
(^٥) هو كتاب "العبادة" ذكر المؤلف فيه (ص ٦٦٩) هذا البحث وأنه أفرده في رسالة.
15 / 154
هذا، وبعد أن توسطت هذه الرسالة، ووجدتُ الكلام في هذه المسألة مرتبطًا بالكلام على البدع والمحْدَثات عزمتُ على إفراد رسالةٍ أخرى في تحقيق ما هي البدعة؟ (^١) ومِن الله أستمدُّ التوفيق والعون بفضله وكرمه.
_________
(^١) طُبعت ضمن هذا المشروع المبارك ضمن الرسائل العقدية.
15 / 155
[ص ٣] فصل
تعريف الضعيف مذكور في كتب المصطلح وغيرها فلا نطيل بذكره، وإنما ننبّه هنا على مهمّات:
الأولى: يُعْلَم من إمعان النظر في فصل "الحسن" من كتب الاصطلاح المطوّلة كـ "فتح المغيث" (^١) أنه إنما استقرّ الاصطلاح على جَعْل الحسن قسمًا برأسه من الترمذي فمَنْ بعدَه.
ويتحقق بذلك ما قاله بعض الأجلّة (^٢): أن ما استقر الاصطلاح على تسميته بالحسن كان المتقدّمون يطلقون عليه تارةً "صحيح" وتارة "ضعيف". فإذا نظروا إليه من حيث هو صالح للحجة قالوا: صحيح، وإذا نظروا إليه من حيث هو قريب مما لا يصلح للحجة قالوا: ضعيف.
ويقرُب من هذا ما قاله السخاوي: "ينبغي أن تتأمل أقوال المزكّين ومخارجها، فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون به أنه ممن يُحتج بحديثه ولا ممن يُردّ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قُرِن معه ... وعلى هذا يُحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل". "فتح المغيث" ص ١٤٢ - ١٤٣ (^٣).
الثانية: إذا وجدنا مسألةً ذهب إليها إمام، وشاع أنه إنما استند إلى حديث ضعيف، لم يَجُز أن نَنْسب إليه أنه يرى الاحتجاج بالضعيف، بل
_________
(^١) (١/ ٧١ وما بعدها).
(^٢) لعله أراد الشيخ محمد تقي العثماني في مقدمة كتابه "فتح الملهم شرح مسلم".
(^٣) (٢/ ١٢٧).
15 / 156
نقول: لعله ظن الحديث صحيحًا، إما لعدم علمه [ص ٤] بجرح الراوي، وإما لأنه اعتضد عنده بدليلٍ قويّ عنده، إما بفهمه من القرآن، أو الأحاديث الثابتة، أو قياس، أو قول صحابيّ، أو إجماع ظنّه، أو عَمَل أهل بَلَدِه، أو غير ذلك.
الثالثة: إذا عَرَضتْ للمجتهد مسألة لم يجد لها دليلًا وإنما بلَغَه فيها حديثٌ ضعيف، فيجوز أن يؤدّيه اجتهاده إلى تصحيحه؛ لأن أمامه ثلاثة احتمالات:
أحدها: أن تكون الشريعةُ أهملت هذه المسألة.
الثاني: أن الأمة أضاعت الدليلَ الخاصَّ بتلك المسألة.
الثالث: أن يكون هناك دليل محفوظ، ولكن خفي على المجتهد.
والأوّلان باطلان فيتعيّن الثالث، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون ذلك الدليل غير هذا الضعيف ومخالفًا له.
الثاني: أن يكون هو ذلك الضعيف يُروى من طريق ثابتة، أو دليلًا آخر موافقًا له، والنظر يُساعد على ترجيح هذا الثاني.
فعلى هذا لم يَبْقَ هذا الضعيف ضعيفًا عند المجتهد، بل ترقّى عنده إلى رتبة الحسن بهذا النظر. فتدبّر.
الرابعة: قد يكون نوع أو فرد من الحديث صحيحًا في نظر مجتهد وهو ضعيف عند غيره، فإذا احتجّ ذلك المجتهد بما هذا حاله من الحديث أو عَمِل به فإنما عمل بالصحيح [ص ٥] في رأيه، فمِنَ الغفلة والمغالطة أن
15 / 157
يُنسَب إليه أنه يعمل بالضعيف أو يُحتج بفعله على جواز العمل بالضعيف مطلقًا.
الخامسة: قد يكون نوع أو فرد من الحديث ضعيفًا عند مجتهد ضعفًا يسيرًا، فينصّ أنه إذا اعتضد بكذا (ويذكر عاضدًا ضعيفًا) صار حجةً، مع أنّ ذلك العاضد لا يُصَيّر كلَّ حديث ضعيف حجة عند ذلك المجتهد، وعلى هذا فلا يصح أن يُنسَب إلى ذلك المجتهد العمل بالضعيف.
[ص ٦] فصل
نقل بعضُهم حكايةَ الإجماع على أن الأحكام لا تثبت بالضعيف، كما سيوافيك في كلام الدواني، وقد يخدش في ذلك أمور:
الأول: ما نُسِب إلى أبي حنيفة ﵀ أنه يحتج بالضعيف ويقدّمه على القياس (^١).
ولم يُنقل عن أبي حنيفة نصّ بهذا على أنه أصل وقاعدة، وإنما حُكيت عنه مسائل ذهب إليها ولم يوجد لها دليل إلا حديث ضعيف مع مخالفتها للقياس. ولما كان المشهور عن أبي حنيفة أنه يقدّم القياس على الأحاديث الصحيحة، ولهذا سمّوه وأصحابَه "أهل الرأي" حاول بعض أتباعه أن يدفع هذا ويبالغ في نفيه فقال: بل مذهب أبي حنيفة تقديم الحديث الضعيف على القياس، وحكى تلك المسائل، وأضاف إلى ذلك:
_________
(^١) انظر "أصول البزدوي" (ص ٥)، و"الإحكام" (٧/ ٥٤) لابن حزم، و"إعلام الموقعين": (٢/ ١٤٥).
وانظر للمؤلف: "التنكيل": (١/ ٣٧ - ٤٠)، و"تنزيه الإمام الشافعي": (ص ٣٢٩ - ٣٣٠ ضمن هذا المجموع).
15 / 158
أن أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهبه تقديم الضعيف على القياس، كأنه أراد أن جميع أصحابه ينقلون عنه تلك المسائل ويذكرون في الاستدلال لها تلك الأحاديث الضعيفة.
وهذا كلّه مناورة، وقد عُلم جوابه من المهمّة الثانية (^١). ومن راجع أصول الحنفية تبيَّن له الصواب.
الأمر الثاني: ما نُقل عن أحمد بن حنبل ﵀ أنه يحتج بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره (^٢)، وقد عُلِم جوابه من المهمّة الأولى (^٣)، وبذلك أجاب بعض المحققين من أتباعه. ويؤيّده أن الناقلين مثّلوا الضعيفَ الذي يأخذ به إذا لم يجد غيره [ص ٧] بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو من قبيل الحسن عند أحمد، كما يظهر من كلامه فيه؛ قال مرة في عَمْرو: له أشياء مناكير وإنما يُكتب حديثُه يُعتبر به، فأما أن يكون حجةً فلا. وقال مرةً: أنا أكتبُ حديثَه، وربما احتججنا به، وربما وَجَس في القلب منه شيء. وقال مرة: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإذا شاؤوا تركوه (^٤). وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عُبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحدٌ
_________
(^١) (ص ١٥٦).
(^٢) انظر "إعلام الموقعين": (٢/ ٥٥ و١٤٥ - ١٤٦).
(^٣) (ص ١٥٦).
(^٤) انظر نصوص أحمد في "موسوعة أقوال أحمد في الرجال": (٣/ ٩٩ - ١٠٠).
15 / 159
من المسلمين (^١). "تهذيب التهذيب" (^٢) ترجمة عَمرو.
ويتلخّص من كلام أحمد: أن حديث عَمرو ليس عنده بحجة مطلقًا وإنما يُحتج بأحاديثه التي لم يجس في النفس منها شيء، فإذا وَجَس في النفس من حديثه شيء لم يحتج به، وذلك بأن يكون الحديث منكرًا أي مخالفًا لدليل أقوى منه.
وهذا شأن الثقات كلهم ولكن كأنّ هذا الضرب من المناكير وقع في حديث عَمرو أكثر مما وقع في حديث وكيع وأضرابه، ولم يبلغ في الكثرة إلى حدّ يوقع الشكَّ في جميع حديثه. على أنّ يعقوب بن شيبة قال: "والأحاديث التي أنكروا من حديثه إنما هي لقومٍ ضعفاء رووها عنه، وما روى عنه الثقات فصحيح". وقال أبو زُرعة: "عامة المناكير تُروى عنه إنما هي عن المثنّى بن الصبّاح وابن لهيعة والضعفاء، وهو ثقة في نفسه ... ". وقال إسحاق بن راهويه: "إذا كان الراوي [ص ٨] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر". "تهذيب التهذيب" (^٣) أيضًا.
فإن ثبت عن أحمد الاحتجاج بالضعيف المصطَلَح عليه إذ (^٤) لم يجد في الباب غيره، فقد مرَّ توجيه ذلك في المهمة الثالثة (^٥).
_________
(^١) انظر نحوه في "التاريخ الكبير": (٦/ ٣٤٣).
(^٢) (٨/ ٤٨ - ٥٥).
(^٣) نفسه.
(^٤) كذا في الأصل.
(^٥) (ص ١٥٧).
15 / 160
وأما ما رواه عبد الله بن أحمد: "أنه سأل أباه عن الرجل يكون ببلدٍ لا يجد فيها إلا صاحبَ حديث لا يدري صحيحه من سقيمه، وصاحبَ رأي، فمن يسأل؟ قال: يسأل صاحبَ الحديث" (^١).
فوجْهُه أنه رأى أن كلام الرجلين يمكن أن يصيب ويمكن أن يُخطئ، والخطأ مع قَصْد الاتِّباع خير من الخطأ على قَصْد العمل بالرأي، والفَرْضُ أن صاحبَ الرأي جاهل بالحديث كما هو ظاهر.
وفي مذهب أحمد كثير من المسائل بناها على القياس وخالف أحاديث ضعيفة وردت فيها، منها المسائل التي نُسِب إلى أبي حنيفة أنه بناها على أحاديث ضعاف مخالفة للقياس، كانتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وغيرها.
الأمر الثالث: ما حُكي عن أبي داود أنه يحتجّ بالضعيف إذا لم يكن في الباب غيره وكأنّهم أخذوا ذلك من قوله في "رسالته إلى أهل مكة" (^٢): "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ... فإذا لم يكن مسند غير (^٣) المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يُحتجّ به، وليس هو مثل المتصل في القوّة ... وأما ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينتُه، ومنه ما لم يصح سندُه. وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح".
هذا مع أن في كتابه أحاديث ضعيفة سكت عنها.
_________
(^١) في "مسائل عبد الله" (ص ٢٧٥) بنحوه، وانظر "تاريخ بغداد": (١٣/ ٤٤٨)، و"ذم الكلام": (٢/ ٢٦٤) للهروي.
(^٢) (ص ٦٤ - ٦٩).
(^٣) كذا، والذي في الأصول الخطية للرسالة "ضد" وهو الأصح من جهة المعنى.
15 / 161
وعبارته تُشْعِر بأنه متردّد في تصحيح المرسل مطلقًا، ومال إلى تصحيحه إذا لم يوجد غيره، وكأنّ ذلك لِمَا مرَّ في المهمة الثالثة (^١). مع أن "غير المراسيل" (^٢) بلفظ الجمع ربما يُشْعِر باشتراطه اعتضاد المرسل بمرسل آخر كما هو رأي الشافعي على ما يأتي.
وأما قوله: "وما كان في كتابي فيه وهن شديد .. إلخ" فقد بيَّن المحققون أن مراده بالصالح ما هو أعم من الصالح للحجة والصالح للاعتبار، فيُحْمَل ما في الكتاب من [ص ٩] أحاديث ضعيفة سكت عنها على أنها عنده صالحة للاعتبار فقط. ويرشد إلى هذا قوله: "وهن شديد" فإنه يدل على أنه لم يبيِّن ما فيه وهن وليس بالشديد. انظر "فتح المغيث" (^٣) وغيره.
الأمر الرابع: ما ذهب إليه مالك وغيره من الاحتجاج بالمرسل، وقد عُلِم جوابه من المهمة الرابعة (^٤).
الأمر الخامس: ما ذهب إليه الشافعي من الاحتجاج بالمرسل إذا اعتضد بمرسل آخر من وجه آخر، أو بقول صحابيّ أو نحوه على تفصيل له في ذلك (^٥). وقد عُلِم الجواب عنه من المهمة الخامسة (^٦).
_________
(^١) (ص ١٥٧).
(^٢) سبق أن الثابت في الأصول في لفظة "غير المراسيل"= "ضد المراسيل" وعليه يكون المعنى: إذا لم يوجد مسند مضاد للمرسل، ولم نجد مسندًا يُغني عنه فإنه يُقبل.
(^٣) (١/ ٨٨).
(^٤) انظر (ص ١٥٧).
(^٥) ذكره في كتاب "الرسالة" (ص ٤٦٢ فما بعدها).
(^٦) انظر (ص ١٥٨).
15 / 162
[ص ١٠] فصل
قال الجلال الدواني في كتابه "أنموذج العلوم" (^١): "اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحبّ العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ... وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الخمسة". نقله السيد الإمام عبد الرحمن بن سليمان الأهدل في "المنهج السوي" (^٢).
أقول: أول من أحفظ عنه الكلام في مسألة العمل بالضعيف في الفضائل صراحةً هو القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة ٥٤٣، فإنهم نقلوا عنه أنه أنكر جواز العمل به (^٣)، ولعله صاحب العبارة التي حكاها ابن حجر الهيتمي عن بعض المانعين: "إن الفضائل إنما تُتلقّى عن الشارع فإثباتها بما ذكر اخْتِراع عبادة وشَرْعٌ لما لم يأذن به الله" (^٤).
ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في شروط جواز العمل بالضعيف ثلاثة شروط (^٥):
أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين
_________
(^١) (ص ٢) ونقله عنه جمال الدين القاسمي في "قواعد التحديث" (ص ١١٧ - ١١٨).
(^٢) (ص).
(^٣) انظر "فتح المغيث": (١/ ٣٣٣)، و"تدريب الراوي": (١/ ٣٥١).
(^٤) في "الفتح المبين" (ص ٣٦).
(^٥) في "تبيين العجب لما ورد في فضل رجب" (ص ٩).
15 / 163
والمتهمين بالكذب ومَن فَحُش غلطُه. ونَقَل العلائيُّ الاتفاقَ عليه (^١).
الثاني: أن يندرج تحت أصلٍ معمولٍ به.
الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط.
وقال: هذان ذكرهما ابن عبد السلام وابن دقيق العيد. هكذا نقله السيوطي في "تدريب الراوي" (^٢).
ثم ابن دقيق العيد ولد سنة ٦٣٥ وتوفي سنة ٧٠٣. وقد مرَّ نقل ابن حجر عند اشتراط الشرطين السابقَين.
وقال الزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" (^٣) [ص ١١] بعد أن ذكر جواز العمل بالضعيف: "وههنا أمران: أحدهما: قال أبو الفتح القُشيري ــ هو ابن دقيق العيد ــ حيث قلنا: يُعْمَل بالحديث الضعيف لدخوله تحت العمومات، فشرطه أن لا يقوم دليل على المنع منه أخصّ من تلك العمومات، مثاله: الصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب، فإن الحديث فيها ضعيف، فمن أراد فِعْلها وإدراجها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة
_________
(^١) نقله السيوطي في "التدريب".
(^٢) (١/ ٣٥١).
(^٣) كتاب "الذهب الإبريز في تخريج أحاديث فتح العزيز" للزركشي (٧٩٥) لا يزال مخطوطًا. انظر "الفهرس الشامل- قسم الحديث": (٢/ ٧٩٧). وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "إحكام الأحكام بشرح عمدة الأحكام": (٢/ ١٥٠ - بحاشية الصنعاني) وقد نقله أيضًا ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام": (٢/ ٣٩٨ - ٤٠٤).
15 / 164
والتسبيحات لم يستقم؛ لأنه صح عن النبي ﵌ نَهْيٌ أن تُخَصّ ليلة الجمعة بقيام، وهذا أخصّ من العمومات الدالة على فضيلة الصلاة".
والنووي ولد سنة ٦٣١ وتوفي سنة ٦٧٦. وهو الذي اشتهر عنه هذا القول، ونصّ عليه في عدة [من] كتبه، وحَكَى الاتفاقَ عليه، وفي أكثر كتبه ذِكْر الجواز فقط (^١)، وفي "الأذكار" (^٢) الجواز والاستحباب، ولم ينص على شرطٍ أصلًا كما قاله السيوطي في "التدريب" (^٣) إلا أن الشروط المذكورة تؤخذ من كثير من أقواله.
ويظهر لي أن الصلاة ليلة أول جمعة من رجب هي التي أثارت هذا البحث، فقد حكى أبو شامة في كتابه "الباعث" (^٤) أن ابن الصلاح كان متولّيًا لمنصب الفتوى، فاسْتُفْتي عن الصلاة المذكورة، فأجاب بإنكارها وأنها محْدَثة، ثم اسْتُفتي مرة أخرى، فأجاب بنحو جوابه الأول. ثم فُصِل عن منصب الفتوى وأُقيم فيه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، فشدّد النكير على صلاة الرغائب، فعارضه ابنُ الصلاح [ص ١٢] وجوَّزها؛ معتذرًا بأنه قد ورد فيها حديث، وبأنها داخلة في عموم الترغيب في الصلاة، وصلاة الليل خاصة، فردّ ابنُ عبد السلام وتلامذتُه كأبي شامة وابن دقيق العيد بما تراه في
_________
(^١) انظر "الأربعين" (ص ٣)، و"المجموع": (١/ ٥٩).
(^٢) (ص ٨).
(^٣) (١/ ٣٥١).
(^٤) (ص ١٤٥).
15 / 165
كتاب "الباعث" لأبي شامة (^١).
وكان النوويّ من جملة من ردّ على ابن الصلاح، وصرّح بأن الصلاة المذكورة بدعة قبيحة (^٢).
ثم كأنَّ النوويَّ استخلص من البحث جواز العمل بالضعيف في الفضائل، وأيّد ذلك بما نقله عن أئمة السلف من النصوص في تساهلهم في رواية ما لم يكن فيه حُكم، كما ستراها. وكأنّه اعتضد ذلك عنده بفروعٍ للشافعي سَتَرِدُ عليك إن شاء الله، فجزم بالاتفاق على ذلك، ثم رأى أن الجواز لا فائدة له؛ لأن الفَرْض أنه ثابت بدون الضعيف فزاد الاستحباب كما صرّح به في "الأذكار" (^٣).
ومن العجب أن كتاب أبي شامة "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لم يتصدَّ للكلام في العمل بالحديث الضعيف، مع أن القصد الأول منه إبطال الصلاة المذكورة، وتعرّض فيه لغالب ما جرى من الاحتجاج من الطرفين، نعم يؤخذ منه ما يخالف قولَ النوويِّ كما ستراه إن شاء الله.
ثم جاء مَن بَعْد النووي، فمنهم من ردّ عليه قوله أصلًا كالمحقق الشاطبي في "الاعتصام" (^٤). ومنهم من أرْعَبَتْه حكاية الاتفاق ولكنه لم ير
_________
(^١) (ص ١٤٥ وما بعدها)، وهناك رسالة بعنوان "مساجلة علمية بين الإمامين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة"، من مطبوعات المكتب الإسلامي بتحقيق الشيخ الألباني.
(^٢) انظر "المجموع شرح المهذب": (٤/ ٥٦).
(^٣) (ص ٨).
(^٤) (٢/ ١٦ - ٢٠ ت مشهور).
15 / 166
وجهًا للاستحباب.
قال الزركشي في مقدمة "الذهب الإبريز" بعد ما تقدم نقله عنه: "الثاني: أن هذا الاحتمال الذي قلناه من جواز إدراجه تحت العمومات يريد به في الفعل [ص ١٣] لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة؛ لأن الحكم باستحبابه على هيئته الخاصة يحتاج إلى دليل عليه ولابدّ، بخلاف ما إذا بُني على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص [بذلك الوقت] (^١) ولا بتلك الهيئة. وهذا هو الذي قلنا باحتماله وجواز العمل به".
ونحو هذا قال الخطيب الشربيني في "شرح المنهاج" (^٢) فاعترضه ابنُ قاسم وأثبت الاستحباب.
ومنهم من تحيّر وقرر الإشكال كالدواني (^٣)، ومنهم من قلّد النووي وتمحّل في الاعتذار كابن حجر الهيتمي (^٤)، على أنه قال في "رسالة البسملة": "إنما يُعمل به حيث لم يعارضه ما هو أولى منه بالاعتماد والعمل، وهذا معلوم من كلامهم بلا شكّ، فإذا دلّ ضعيف على ترغيب في فعل شيء خاصة وقد عارضه صحيح يدل على كراهيته ــ مثلًا ــ ولو بطريق العموم= وجب أن يعمل بمدلول ذلك العام في هذا الشيء الخاص، ولم يَجُز العمل بالضعيف فيه".
_________
(^١) مستدركة من كتاب ابن دقيق العيد.
(^٢) (١/ ٦٢)، وكلام ابن قاسم في حاشيته على "تحفة المحتاج": (١/ ٢٤٠).
(^٣) سبق العزو إلى كتابه "أنموذج العلوم".
(^٤) في "شرح الأربعين" وقد سبق.
15 / 167
وهذا ــ وإن لم يتنبّه قائله ــ يقتلع جواز العمل بالضعيف من أصله، كما سترى إن شاء الله تعالى.
ومنهم من فصَّل، ولا داعي لاستيعاب أقوالهم، بل علينا أن نعترض الحجج والدلائل ونغترف الحقَّ من معدنه فأقول:
[ص ١٤] فصل
الآثار المروية عن أئمة السلف ــ وإليها استند النووي في حكاية الإجماع فيما يظهر ــ لم أر فيها ما هو ظاهر في جواز العمل بالضعيف ولا استحبابه. بل إذا أمعنت النظرَ وجدتها صريحة في خلافه، وهذا أشهرها:
قال السخاوي في "فتح المغيث" (^١): "قال الحاكم: سمعت أبا زكريا الغُبَري (^٢) يقول: الخبر إذا ورد لم يحرّم حلالًا، ولم يحلّ حرامًا، ولم يوجب حكمًا، وكان في ترغيب أو ترهيب= أُغْمِض عنه وتُسُهِّل في رواته.
ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في "المدخل" (^٣): إذا روينا عن النبي ﵌ في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب
_________
(^١) (١/ ٣٣٢).
(^٢) كذا في الأصل، كما في الطبعة التي نقل عنها المؤلف وصوابه: "العنبري" كما في ط المحققة، وقول العنبري ذكره الخطيب في "الكفاية" (ص ١٣٤).
(^٣) ليس في المطبوع منه، وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك": (١/ ٤٩٠) وفي "المدخل إلى الإكليل" (ص ٥٩).
15 / 168
سهّلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال. ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه: الأحاديث الرقائق يُحتمل أن يُتَسَاهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم" اهـ "فتح المغيث" ص ١٣٠.
وقال الخطيب في "الكفاية" (^١): "باب التشدّد في أحاديث الأحكام والتجوّز في فضائل الأعمال. قد ورد عن غير واحدٍ من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلّا عمن كان بريئًا من التهمة بعيدًا عن الظِّنّة. وأما أحاديث الترغيب والمواعظ فإنه يجوز كَتْبها عن سائر المشايخ".
ثم أسند عدة آثار منها عن الإمام أحمد أنه قال: "إذا روينا عن رسول الله ﵌ [ص ١٥] في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي ﵌ في الفضائل وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد" "الكفاية" ص [١٣٤].
وقال ابن عبد البر في كتاب "فضل العلم" بعد أن ذكر حديثًا ضعيفًا في فضل العلم: "الفضائل تُرْوَى عن كل أحد والحجة من جهة الإسناد إنما تُتقصَّى في الأحكام وفي الحلال والحرام" "مختصر جامع بيان العلم" ص (^٢).
_________
(^١) (ص ١٣٣).
(^٢) بيَّض المؤلف رقم الصفحة، وكلام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (١/ ١٥٢).
15 / 169
وثَمَّ عبارات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى، أي التساهل في الأخذ والرواية عن الضعفاء فيما رووه في الفضائل، مما ليس فيه حكم ولا حلال ولا حرام ولا سنة.
وقد لخص ابن الصلاح في "مقدمته" (^١) عبارات القوم باحتياطٍ تامٍّ رغمًا عما حُكي عنه من تمحّله أخيرًا لصلاةِ ليلةِ أول جمعة من رجب وأشياء تُشْبهها، كما ذكره أبو شامة في "الباعث" (^٢).
وكأنّ ابن الصلاح ــ غفر الله له ــ أراد أن يكون كتابه "المقدمة" أصلًا لأهل الحديث إلى يوم القيامة، فتورّع أن يحْدِث فيه حَدَثًا أو يؤوي محدثًا.
وأما النووي ﵀ فإنه رغمًا عن إنكاره الصلاةَ المذكورة زاد في "مختصره لمقدمة ابن الصلاح" (^٣) زيادةً نابية، وهذه عبارته: "ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد، ورواية ما سوى الموضوع من الضعيف، والعمل به من غير بيان ضعفه، في غير صفات الله تعالى والأحكام كالحلال والحرام وغيرهما، وذلك [ص ١٦] كالقصص وفضائل الأعمال والمواعظ وغيرها مما لا تعلُّق له بالعقائد والأحكام، والله أعلم".
فقوله: "والعمل به" من زيادته. ولولا أن القول بجواز العمل متواتر عن النووي، نصّ عليه في كثير من كتبه لقلتُ: إن هذه الكلمة ملحقة في عبارته؛ لأنها كما ستعرف مناقضة لما قبلها وما بعدها، ومناقضة للنصوص التي
_________
(^١) (ص ١٠٣).
(^٢) (ص ١٤٥).
(^٣) "التقريب لسنن البشير النذير": (١/ ٣٥٠ - مع شرحه تدريب الراوي).
15 / 170
لخَّصها، وليست في عبارة أصله.
إنني قد استعجلتُ بهذا الحكم قبل أن أضطَرَّ الناظر في هذه الرسالة إلى مشاركتي فيه، ولكنَّ الخطب سهل.
[ص ١٧] فصل
أنت ترى النصوص المتقدّمة عن ابن مهدي وغيره ليس فيها ذِكْر لجواز العمل بالضعيف ولا استحبابه، وإنما فيه تساهلهم في روايته بشرطه، لكن قد لا يبعد أن يكون النووي ﵀ رأى تساهلهم في رواية الضعيف في الفضائل دون الأحكام يستلزم جواز العمل به في الفضائل، وإلّا لَمَا كان هناك معنى للفرق، فإن تشدّدهم في رواية ما فيه حُكم إنما هو لعلمهم أنهم إذا لم يُشدّدوا في روايته يُخشَى أن يَعملَ به من يسمعه، وذلك لا يجوز، فتساهلهم في الفضائل يدلّ على أنهم لم يروا محذورًا في أن يعمل بها من يسمعها، وهذا معنى الجواز.
ثم رأى أن العمل المتوقّع من العامة إذا سمعوا الضعيف في الفضائل هو العمل طلبًا للفضل، ومعنى ذلك أنهم يرونه مظنّة لأن يُؤجروا عليه، وعليه فلو كان أولئك الأئمة يرون أن العمل به ليس مظنة للأجر لكانوا يرون العمل به طلبًا للأجر بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، فكيف يقع منهم تساهل يؤدّي إلى إيقاع الناس في الضلالة؟! فتعيّن أنهم كانوا يرون العملَ به مظنَّة للأجر، وهذا هو الاستحباب، فلهذا صرَّح النووي في "الأذكار" (^١) بالاستحباب، وكأنه حمل ما صرَّحوا به من أنهم لا يتساهلون في رواية ما فيه حكم أو سنة
_________
(^١) (ص ٨).
15 / 171