وقال مترصن: وزاد الطين بلة قانون المونوبول، من يخرم منه حرفا خرب بيته، فالسيف مسحوب فوق رءوسنا ويقولون لنا: الاستقلال الاستقلال. وأين الاستقلال لمن لا يزرع حقله بعقله؟ وأين الاستقلال للذي لا يسحب كيسه على عيني وعينك يا تاجر؟ وأين استقلال ابن الضيعة والمزرعة ما دام تحت رحمة المفتش والورديان وبيته معرض للنبش كل ساعة، وغلته في خطر الحرق إذا أرادت الشركة. مصيبة الضياع كبيرة جدا جدا وخصوصا ضيعتنا عين كفاع.
فقال أبو ميشال: هذا الصحيح، ثم هز رأسه وصاح: والله والله، وحق جسد الرب، وحياة الله.
فسد أبو يوسف أذنيه كيلا يسمع الحلف بالله بالباطل، أما أبو ميشال فما بالى بل انتخى ووقف وقال: وحقك يا مار روحانا، فشخه - أي خطوة - ثنتين ثلاثة، لو ما كان ديب ناضر مثل السبع وركض إلى عمشيت في الليل وعملوا له تسع حقن كان مات وبليت عظامه، يا هو. لو كانت عقصت الحية عمي مارون من كان حمله إلى عمشيت! كان مات معنا على الدرب، اشكروا الله يا ناس.
فأخذ يشكر الله وأبو يوسف يدق بيده على ظهره استحسانا لما قال كأنني كنت أنا الملدوغ، مع أنني كنت في عاليه ليلة عضت الأفعى أخانا ديب ناضر. واسترسل أبو ميشال في حديث مؤلم عن الذين ماتوا ولم يسعفهم طبيب، فتنهد الناس جميعا ودعوا للرئيس بالخير لأنه أمر بشق الطريق، وهندسها البعقليني.
ثم آل الحديث إلى فتى حامل شهادة فقال بلهجة خطابية إنما بدون سيداتي سادتي: لا بطرك ولا حاخام ولا مفتي ولا مطران، ما حك جلدك مثل ظفرك، يجب أن نهتم بأمورنا، كلنا نعرف أن القرى حياة الحكومة والمدن فلماذا تهملها الحكومة؟ قولوا لي. هذا ناتج عن خمولنا نحن أهل القرى ، الحكومة لا تعرفنا إلا يوم الانتخاب، وحين تحتاج إلى إمضاءاتنا للشكر والتأييد، فلو كنا رجالا ما انتخبنا ولا أيدنا إلا من يؤيد مطالبنا العادلة. يا ذوات.
فهز أبو يوسف رأسه وتبسم لكلمة (ذوات)؛ ولكنه التفت صوبه، فقال الفتى: تذكرنا الحكومة في أيام المواسم فترسل الجباة لسؤال خاطرنا، فتهلل أبو يوسف لها وقال: صحيح.
وقال الفتى: تأخذ منا لتعطي غيرنا. فضحك أبو يوسف وقال آية الإنجيل: من له يعطى ويزاد. فقال الفتى المتحمس تتذكرنا الحكومة كما يتذكر المعلم، أي: الملاك، شريكه يوم العيد إذا تأخرت العيدية، أي: الهدية، أما في أيام البيدر فيحاسبه على الحبة.
وتوقف قليلا فخفنا أن يرتج عليه، ولكنه استأنف كلامه قائلا: البطوا الذين ركبوا على ظهورنا حتى وصلوا إلى الكراسي، ولما صاروا في السرج ما عادوا ذكرونا ولا عرفونا. فلتعلفنا الحكومة حتى نسمن، الحمار يعلق له صاحبه أقة شعير ليركبه طول النهار.
فصاح أبو طنوس: عشت يا بطل، وتحمس الجمهور فقال واحد: ربما كان بين الذين سألهم الريس من يعرف أحوالنا، فقال الشاب: لا تعيشوا على: ربما ولعله، ارفعوا أصواتكم والرئيس يسمع، أنا أعرف الأستاذ أده.
فناست الرءوس تعجبا، وتناظروا هامسين: هو، هو، يعرف أده! أما الفتى فلم يبال وأتم حديثه قائلا: فهموه أنكم تدفعون ولا تقبضون، يأخذون منكم ليعطوا غيركم، خبروه أن الموظف إذا كان بخير قال البلاد بألف خير، والعكس بالعكس. فهموه أنكم تموتون ولا يعلم بكم أحد، لا أطباء ولا صيدليات ولا طرقات ولا مدارس، ولا ماء ولا كهرباء. خبروه أنكم منذ سبعين سنة ما صرف لكم غرش واحد من صندوق الحكومة لإصلاح طرقات القدم والحافر، خبروه كل شيء، دقوا الباب تسمعوا الجواب.
Unknown page