Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Genres
جاءني ذات يوم شاب فانتقلنا من بحث إلى بحث حتى خضنا في حديث شكسبير الشاعر الإنجليزي فقال إن رواياته مأخوذة من قصص قديمة. فقلت «هذا صحيح والأصح أن نقول معظمها وأهمها، ولكن ماذا تعني، قال أعني أن فضله قليل فيما أخرج فلو لم تكن هذه القصص القديمة لما كان شكسبير».
قلت إني كبير الشك في هذه النظرية، وعندي أنه لو لم يجد شكسبير هذه القصص لابتكر غيرها أو لانتزع مادة لقصصه من الحياة حوله. ولكن دع هذا الآن وأنا أشير عليك أن تأخذ قصة من هذه القصص القديمة التي انتفع بها شكسبير، وأن تدرس أيضا روايته فيها. وأن تضع الاثنين معا أمامك.
وتحاول أنت أن تكتب رواية تبنيها على هاتين شعرا أو نثرا كما تشاء أو حتى باللغة العامية إذا أردت، وانظر ماذا يدخل في وسعك وحينئذ تعرف فضل شكسبير وتستطيع أن تقدر عبقريته.
إن النقد النافع هو الذي يتوخى فيه صاحبه القصد والاعتدال. والاعتدال واجب في كل أمر، ولكنه في النقد أوجب، فيحسن بمن يزاول النقد أو يبدو له ما يغري به أن ينام على الرأي الذي يعن له ليلة أو ليلتين. ويديره في نفسه يوما أو يومين قبل أن يجري به لسانه أو قلمه. فإن النفس تسكن والوجوه تتفتح، والغوامض أو الخافيات تتبدى والراسب يطفو والغائب يحضر. والرأي في النهاية يكون أقرب إلى الاتزان وأشبه بالعدل.
وقد علمتني تجربتي الطويلة أن أنام هذا النوم ليلة وليالي على كل ما يخطر لي من قول أو فعل وكثيرا ما رأيتني أعدل عما كنت هممت به.
والسؤال الذي ينبغي أن يلقيه المرء على نفسه وهو يتدبر كتابا هو هذا. ما هي الفائدة المباشرة التي خرجت بها من لغة أو فكرة، أو معنى، أو حقيقة أو ما هو من ذلك بسبيل.
ومن الإنصاف للكاتب أن لا نبخل عليه بالاعتراف بما أفدنا منه، إذا كنا أفدنا شيئا ولو قليلا.
على أنه قد يتفق أن لا يكون في الكتاب ما يستفيده القارئ مباشرة فلا يخرج منه جديدا أو معرفة طريفة أو فائدة حسنة ولكنه قد يستطيع على الرغم من خلوه من هذه الفوائد المباشرة أن يحرك خيالنا، ويوقظ أذهاننا، ويبتعث نفوسنا، وينشطنا على العموم إذ يوحي إلينا شيئا - عفوا لا عمدا - ويخطر على بالنا أمرا، أو يعرفها وجهة ما، فهذه أيضا لا تستقل ولا تستخف بها، وحسبنا هذه الاستثارة لكوامن نفوسنا، حتى ولو أغضبتنا، فإن إغضابنا يكون كأنه وخز لنا يستفزنا.
والوخز تحريك وتنبيه، وإنه ليكون من فضل الكاتب علينا أنه استطاع أن ينهضنا بعد الرقاد، ويفتح عيوننا بعد الإغماض.
وما أكثر ما يسأل السائلون عن بواعث التأليف؟ لم رأى الكاتب أن يتناول هذا الموضوع خاصة بالبحث؟ وماذا زين له ذلك وأغراه به؟ والإنسان بطبيعته فضولي؟ فلا استغراب لمثل هذا السؤال.
Unknown page