Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Genres
وللراحة مزية أخرى غير تعويض الخسارة البدنية هي الرضى فإن المرهق المكدود لا يكون إلا متسخطا أو في خير الحالات متبرما فمن المصلحة وحسن السياسة وحزم التدبير إعطاء الناس جرعة من الرضى الذي تفيده الراحة بعد فترات معقولة من الكد لا يشقى بها الصبر ومن هنا كانت الراحة من حين إلى حين مكسبا لا تشوبه شبهة خسارة لأصحاب الأعمال وللحكومات أيضا في سياسة الشعوب لأن المرء يعود بعدها أقدر على العمل والنشاط فيه وأحسن إقبالا عليه وأكثر انشراحا ورضى وماذا يطلب أصحاب الأعمال أو حكام الشعوب أحسن من أن يكون الناس راضين مستبشرين.
ومزية أخرى لهذه الأعياد متفرعة على مزية الراحة هي أنها حث على السرور وحض على التماس أسبابه. لأن مجرد القول بأن اليوم يوم راحة معناه انتفاء التعب وهذا وحده مدعاة سرور وبعث اغتباط وأخلق بالمرء وقد علم أنه خلا من المتعبات المألوفة المملولة أن يغريه ذلك بالاستزادة من دواعي الغبطة وحشد كل ما يدخل في وسعه من أسباب السرور في يومه هذا وليس أنفع من السرور للأمم ولا ألزم لها منه لأنه ينعشها ويجددها ويجعلها حسنة الاستعداد للنهوض بما يطلب منها من الأعباء الجسام ويفرض عليها من التكاليف الشاقة.
والأمم التي لا تعرف السرور لا تكاد تقوى على شيء وأي الرجلين يكون أقوى وأجلد وأنفذ في المهمات وأنشط في العمل - الرجل المهموم المكروب المحزون الذي تحنيه وتبريه وتثقله الأشجان، أم الفرح الجذلان الراضي عن الحياة المستبشر بها.
أعتقد أن الثاني هو الأكفأ والأصلح حتى ولو كانت مواهبه أقل وأضعف من مواهب صاحبه المكروب الساخط.
وكذلك الأمم - أكفؤها وأقدرها وأكثرها نجاحا وتوفيقا تلك التي تنشد السرور وتحسن التماس أسبابه وتستمتع بدواعيه وتترك نفسها له في مناسباته. فإن من يعرف سرور الحياة يعرف قيمتها، ويحرص على مطالبها، ولا يقصر في فرائضها، ولا يستكثر ما تتقاضاه من نفسه وجهده، ولكن الذي لا يعرف هذا السرور ماذا تكون قيمة الحياة عنده؟ ولماذا يكلف نفسه شيئا في سبيلها؟ وماذا يبذل لها أكثر من الحد الأدنى من جهده؟ وأين العدل في مطالبته بجهد استثنائي أو بذل فوق حدود الطاقة العادية في سبيل حياة لا يعرف له سرور فيها؟
ومن هنا كانت أقدر الأمم على الجهود الضخمة أو الجبارة كما يقولون في تعابيرهم الحديثة تلك التي تنعم بالحياة وتفوز فيها بحظ واف من السرور. والذي لا يحسن أن يلهو لا يحسن أن يجد. والسرور بعد ذلك هو صمام الأمان.
وقد كان شكسبير حكيما حين جعل قيصر يقول وهو ينظر إلى بعض من حوله من الذين يكبتون عواطفهم ولا يسمحون لشعورهم أن يظهر على وجوههم أنه لا يحب هؤلاء النحاف الصفر الوجوه، وإنه يؤثر عليهم أهل البدانة والطلاقة والبشر وليست هذه عبارته بحروفها ولكنه معناها وقد كان يعني أن هؤلاء الصفر الضاوين هم الذين تخشى مكائدهم وتدابيرهم ومؤامراتهم، أما الراضون عن الحياة المقبلون عليها الناعمون بالعيش، فهؤلاء يمكن أن يأمن المرء جانبهم، لأن الكبت يشيع النقمة والنقمة تغري بالانتقام وتجري الخواطر في مجار غير مأمونة. وقد كان هؤلاء الذين خافهم قيصر وتوجس منهم ولم يرتح إلى وجوههم هم الذين ائتمروا به فصح رأيه فيهم. والسرور صراحة، والصراحة تؤمن ولا يخشى شر منها وإن كانت تزعج أحيانا وتربك. أما الوجوم فستار يخفي وراءه ما لا علم به لأحد ويدور تحته في النفس ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه والحذر منه.
وأحسب أن قد آن أن تكون لمصر أعياد تسر فيها وتفرح وترسل نفسها على السجية بلا تكلف أو اتقاء لذم الخروج عن مألوف الاحتشام المتكلف والوقار المستعار، الذي لا يعد من الوقار في شيء إذا أردت الحق وإنما هو ثوب من البلادة.
وقد كانت أكثر أعيادنا إلى ما قبل هذا العهد مقرونة في الذهن بالموت وما إليه من المعاني.
وأذكر أني في حداثتي ما قضيت عيدا إلا في المقابر ومن التناقض العجيب أني كنت ألبس الجديد من الثياب في أيام العيد التي لا ملعب لي فيها غير ما بين القبور من مسافات وأبعاد . ولم يكن يسعني إلا أن أشعر أن هذه المقابر وأن اللعب بينها والفرح غير لائقين فكنت أشعر بفتور طبيعي فأكف غير راض. ولا داعي للخوض في الأسباب التي قرنت الأعياد عندنا على هذا النحو بالقبور وساكنيها فإن الحديث في هذا يطول. وقد جاء العهد الحديث بأعياد لم يكن لها فيما مضى وجود أو داع.
Unknown page