وعيون التماثيل ترى ما لا تراه عيون الأحياء من الناس، وهي ترى على بعد الآماد واشتداد الظلمة، وقد رأى تمثال الملك ما زاده ثقة بأن البؤس والشقاء ما زالا في هذه الأيام القريبة كما كانا في تلك الأيام البعيدة، رأى أجساما قد تشققت عنها الثياب فبرزت لحر الشمس يلفحها ويحرقها تحريقا، ورأى أقداما قد تشققت حتى أفسدها التشقق، وبغضها إلى النعال والأحذية التي لا تحب إلا الأقدام المترفة الناعمة، ورأى رجالا ونساء يقبلون على ما يلقي أغنياء الناس وأوساطهم من فتات موائدهم، فيلتقطون ما يصلح أمرهم ويقيم أودهم، بعضهم يفعل ذلك مستخفيا، وبعضهم يفعل ذلك جاهرا به لا يستخفي ولا يحتاط، ورأى مصريين قد أنبتتهم كلهم أرض مصر، وأحياهم كلهم نيل مصر، وأظلتهم كلهم سماء مصر، ولكن بعضهم يسير سيرة السادة، وبعضهم يسير سيرة العبيد، بعضهم يستعلي ويستكبر، وبعضهم يتضاءل ويستكين، وكلهم - فيما يقال - أمام القانون سواء، فقد تطور النظام الاجتماعي والسياسي، وأصبح المصريون في هذه الأيام ينعمون بالحياة الديمقراطية وما تشيع في الناس من العدل. تطور النظام الاجتماعي والسياسي فيما يقال، وفيما يكتب في الصحف، وفيما يعلم للتلاميذ في المدارس، ولكن الناس ما زال منهم الشقي البائس والسعيد الناعم، وما زال منهم المتكبر المستعلي، والمتضائل المستكين.
تطور النظام، وبقيت الأشياء كما كانت منذ قرون وقرون وقرون. بهذا كله، وبأكثر من هذا كله أوحى الريف المصري، في ناحية من نواحي مصر، إلى تمثال الملك رمسيس الثاني؛ فأظلم وجهه بعد إشراق، كما أوحى البحر بأشياء أخرى إلى الأستاذ أحمد أمين، فأشرقت نفسه بعد إظلام.
أما أنا فإني أتمنى لتمثال الملك أن يوحي إليه الريف المصري يوما ما يرد وجهه إلى الإشراق والابتسام، وأتمنى لصديقي أحمد أمين أن يوحي إليه البحر والبر والسماء والأرض ما يسره ويرضيه، ويلهمه فصولا رائقة شائقة، كهذا الفصل الذي قرأته منذ أيام.
أتمنى لهما هذا، وأعود إلى ما كنت فيه من قراءة أخبار الخوارج في كتاب الكامل للمبرد، فإني أجد في أخبار الخوارج راحة للقلب ومتاعا للذوق.
1945
رحلة
كانت قصيرة جدا، ولو استطعت لأطلتها جدا، ولكن ماذا أصنع والواجبات المعقولة وغير المعقولة تكرهني على الرجوع إلى مدينة القاهرة؟ هذه التي أحبها أشد الحب حتى كأن الله لم يخلق مدينة غيرها خليقة بالحب، وأضيق بها أحيانا أشد الضيق، حتى كأن الله لم يخلق مدينة أثقل منها على النفس، وأدعى منها إلى الفرار.
كانت رحلتي قصيرة جدا، بدأت يوم الخميس، وانتهت يوم الثلاثاء، وكان أظهر منافعها أني فررت فيها من أيام العيد، فخلوت فيها لا إلى نفسي، ولكن إلى أهلي وأصدقائي، وقلما أخلو إلى أهلي وأصدقائي في القاهرة، بل قلما ألقاهم إلا على مائدة الغداء أو العشاء، بل قلما ألقاهم على هذه المائدة، وما أكثر ما أخلو إلى الغداء أو العشاء، فآخذ حظي من الطعام كارها له، متبرما به، متعجلا الانصراف عنه؛ لأن الطعام لا يحب الوحدة، ولا يألف الانفراد.
خلوت إذن في هذه الرحلة القصيرة إلى أهلي وبعض أصدقائي، واستمتعت بهذه اللذة الدقيقة الرقيقة الحلوة، التي تحول الواجبات المعقولة وغير المعقولة بيننا وبين الاستمتاع بها أيام العمل في مدينة القاهرة، فنتحرق شوقا إليها وطمعا فيها، حتى إذا ظفرنا بها كان إحساسنا لها قويا عميقا، وكان انصرافنا عنها لاذعا أليما، وكان إقبالنا على العمل بعدها فاترا مثيرا للغيظ أول الأمر، ثم قويا منتجا بعد قليل من المران.
وما عن هذه اللذة الخاصة التي أصبتها في هذه الرحلة من الخلوة إلى الأهل والأصدقاء أريد أن أتحدث في هذا المقال، فإن هذه قصة أخرى كما يقول كيبلنج، والحديث عنها يحتاج إلى شيء من الراحة وفراغ البال، لا سبيل إليه في القاهرة، بل لا سبيل إليه في مصر، وإنما السبيل إليه في قرية من قرى السڤوا أو الدوفينيه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألفت الاعتصام بها إذا أقبل الصيف، والتي فارقتها في الصيف الماضي، وإن نفسي لتتفرق ألما، وإن قلبي ليتقطع حسرات، لأني لا أعرف هل أعود إليها، ومتى أعود إليها.
Unknown page