ولكن الذي يهمنا هو اتجار القوم بالضمير في مسألة الدين واتخاذه ذريعة مكشوفة للاحتيال على المصالح السياسية. فإن الزعماء الماركسيين الذين هدموا البيع والمساجد واعتقلوا القساوسة والرهبان بجزيرة «سلفيتسكي» الجهنمية وجعلوا الصلاة شبهة تثبت على صاحبها الخيانة والتآمر على الدولة - عادوا في إبان الحرب العالمية فاحتاجوا إلى إثارة النخوة في جنودهم ووجدوا أن المبادئ الشيوعية هي التي خدرتهم وأماتت فيهم الهمة والشجاعة، وأن «أفيون الشعوب» هو الذي يثير النخوة ويبتعث الهمة، فتملقوا رجال الدين وأذاع ستالين في الرابع من شهر سبتمبر سنة 1943 بلاغا يقول فيه: «إن الحزب الشيوعي لا يسعه بعدما بدا من وطنية رجال الدين في صفوف القتال أن يحرم الروسيين بعد الآن من حرية الضمير أو حرية الاعتقاد.»
هذه اللعبة السياسية المكشوفة لم ينخدع بها أحد من الروسيين ولا غير الروسيين، ولا سيما الشعوب الإسلامية التي انصب عليها القسط الأوفر من الاضطهاد بجميع أنواعه وألوانه، لأنه الاضطهاد الذي يصبه عليهم من يتعصب للمادية الشيوعية، ومن يتعصب للعقيدة الدينية، ومن يتعصب للقومية الروسية ويعتبر التكلم بلغة غير اللغة الروسية ثورة على الاستعمار وثورة على نظام الحكم القائم في أيدي الشيوعيين.
وسيطلع القارئ العربي في كتاب «كارثة القرم» على طرف موجز من تلك الفظائع الوحشية التي حلت بأولئك المساكين لغير ذنب إلا أنهم يدينون بشريعتهم، ولا يدينون بالشريعة الماركسية، ويتكلمون بلغتهم ، ولا يتكلمون باللغة الروسية، ويعرفون لهم حقوقا من حرية الضمير يعترف بها حكامهم قولا ويعاقبونهم عليها فعلا أشد العقاب.
وإذا كانت الحرب قد ألجأت أولئك الحكام إلى مجاملة الرعايا المسيحيين فهي على عكس ذلك قد وضعت المسلمين الخاضعين للكرملين موضع التهمة والاشتباه، خوفا من ثورتهم وانتقاضهم لما أصابهم من ضروب المظالم التي تقشعر لهولها الأبدان.
لقد استباحوا المساجد واتخذوا منها مسارح للهو أو اصطبلات للخيل أو حظائر للأغنام، وجمعوا نسخ القرآن والأحاديث النبوية وأحرقوها في الميادين العامة، وبطشوا بكل من يتوقعون منه المقاومة ونكلوا بالشبان الأقوياء ونشروا الخوف والفزع بين العاملين والفلاحين، فأقفرت الديار وأجدبت المزارع وعمت المجاعة واشتدت قسوة الجوع على الناس حتى أكلت الأم ولدها وهي تبكي عليه، ثم نظروا شزرا إلى المحسنين الذين خفوا لإنقاذ المنكوبين فاتهموهم بالادخار والوقوف من السلطة موقف «المتحدي» الذي يأخذ بأيدي ضحاياها، فقتلوهم لأنهم يطعمون الجياع ويعطفون على الآدمية أن يمسخها الجوع مسخ الضواري والسباع!
ولو كانت المادية الماركسية تبقى في الآدمي مسحة من الإنسانية لرثى المسيطرون لأولئك المنكوبين رثاء الإنسان للإنسان. ولكن الإنسانية كلمة لا معنى لها في شريعة الماركسية، لأن الشريعة عندهم هي شريعة «الطبقة» المزعومة فكل من عارضها فهو خارج من زمرة البشر مستباح الدم والذمار كما يستباح الوحش أو يستباح البهيم.
وليس قداسة «البابا» حبر الكنيسة الكاثوليكية مسلما تجمعه بالقرميين جامعة الدين، ولكنه إنسان يحفظ للإنسانية حقها من الرحمة كائنا ما كان الدين الذي تنتمي إليه، ولهذا عطف قداسته على ضحايا القرم المسلمين فأرسل إليهم المعونة من الطعام والدواء، وإن لم تمكنه أحوال الدول من بذل المعونة السياسية لتلك الشعوب المظلومة، فاستحق الشكر الجزيل من أبناء القرم جميعا وسجلوا له شكرهم في هذه الصفحات.
وماذا يردع الطغاة المسلطين على ضحاياهم تلك أن ينكلوا بها غاية ما في وسعهم من نكال القوي بالضعيف؟ هل تردعهم عن ذلك عقيدتهم الشيوعية؟ هل تردعهم عنه أواصر القومية والوطنية؟ هل تردعهم عنه طبائع الهمجية التي ركبت فيهم من قديم الزمن؟ هل تردعهم عنه شناعة السمعة في بلاد العالم وقد عزلوا ضحاياهم عن العالم كله من جميع منافذه ونواحيه؟ لا شيء من هذا يردعهم عن الفرائس العزلاء الملقاة بين أيديهم والموكولة إلى رحمتهم، ولا رحمة عندهم في طباع الهمجية ولا في تعاليم الماركسية، فما أشقى المساكين الذين حاق بهم ذلك العذاب ولا منفذ ولا حامي ولا معين!
إنه عذاب لا حد له ولا غاية، فإن كانت مصيبتهم العظمى مصيبة الفداء الذي يفتح أعين الغافلين إلى مصير البشر على أيدي هؤلاء الزعانف الذين حسبوا أن كلمة «الشيوعية» تشفع للآدمي في نكسته إلى الوحشية، فقد حملوا وحدهم ضريبة الفداء لإنقاذ البشرية من ذلك البلاء، ولعله إنقاذ قبل فوات الأوان.
الأدب والمذاهب الهدامة
Unknown page