فالحق الذي لا شك فيه أن الناس لن يستغنوا عن إصلاح جديد في كل عصر جديد؛ كأنهم الطفل الذي يودع نقص الطفولة ليعالج نقص الشباب، ويودع نقص الشباب ليعالج نقص الرجولة، ويترقى بذلك درجة بعد درجة في معارج الكمال.
وغاية الفرق بين الفرد والنوع الإنساني أن الفرد يشيخ، والنوع الإنساني لا يشيخ. وأولى الناس أن يؤمنوا بهذه الحقيقة هم أبناء الجيل الجديد. لأنهم شباب يرجى منه العمل لتخليد الشباب. وتلك دون غيرها هي العصمة من آفة الهدم؛ لأنها دعامة كل بناء.
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
اشتهر عصرنا هذا بالدراسات النفسية، وتناول الباحثون بهذه الدراسات أحوال الأفراد على اختلافهم، وأحوال الأمم على اختلافها، فبحثوا في نفسية البطل، ونفسية العبقري، ونفسية المجرم، ونفسية الطفل والمراهق، وبحثوا كذلك في أطوار الجماعات وعقائدها، وعوامل التأثير فيها. واستفاد الناس من هذه المباحث فوائد شتى في شئون التربية والتعليم والسياسة.
ولكن هذه الدراسات النفسية قد أصابها ما يصيب كل بدعة جديدة يلهج الناس زمنا من الأزمان: أصابها الإفراط في تطبيقها على كل شيء وكل حالة، فأصبحنا ونحن نسمع بالعقد النفسية في تعليل كل مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، وكلما ذكر الذاكرون بدعة في سلوك بعض الجماعات، أو سلوك بعض الأفراد، وجدنا من يقول: هذه عقدة نفسية، هذه نزعة مكبوتة، هذه حالة من حالات الوسواس التي يعالجها الأطباء النفسانيون، وليس الأمر دائما على هذا الوصف الذي يصفونه، فإن المشكلات الاجتماعية كثيرا ما ترجع إلى أسباب لا علاقة لها على الإطلاق بالعقد النفسية، سواء بحثنا عن هذه العقد في نفوس الأمم أو نفوس الأفراد، ومن الواجب أن نعرف هذه الحقيقة إذا أردنا أن نواجه مشكلاتنا، ونصلح من أمورنا؛ لأن الصواب في تشخيص الداء هو نصف العلاج.
من المشكلات التي يردونها إلى العقد النفسية مشكلة الشاب العصري وموقفه من الدعوات الهدامة ومذاهب الفوضى والانقلاب.
فمن المحقق أن الأمراض النفسية تدفع ببعض الشبان إلى الإصغاء لهذه الدعوات، بغير بحث فيها ولا معرفة لحقيقتها.
ولكن من المحقق أيضا أن مشكلة الشاب العصري - في هذه المسألة - لا ترجع كلها إلى الأمراض النفسية المزعومة؛ بل يرجع الكثير منها إلى أحوال تتعلق بنظام التعليم، أو تتعلق باتساع التعليم، أو باتساع العلاقات العالمية واشتراك بني الإنسان جميعا في ظروف متشابهة، وكل أولئك لا شأن له بالأمراض النفسية ولا بالأطباء النفسانيين، وقد يكون الشأن فيه للمصلحين من رجال التربية والسياسة، قبل غيرهم من القائمين بالإصلاح.
فمن المصاعب التي تصادف الشاب العصري أنه يبقى في المدارس إلى نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذا أراد أن يتخرج من المدرسة العالية.
لم تكن هذه المشكلة مما يواجه الشاب في العصور الماضية، لأنه كان يكتفي بمعرفة القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، وشيء من المعارف العامة، ولا يبلغ الخامسة عشرة حتى يكون قد أخذ نصيبه في المعرفة اللازمة له في معيشته، ثم يتزوج وهو في باكورة صباه، فيحمل أثقال المسئولية ولا يتسع وقته لغير شواغله الخاصة، أو يشتغل بما يسمعه من المسائل العامة، وهو على انفراد. لأنه لا يجتمع بالمئات والألوف من أقرانه كما يجتمع اليوم طلاب الكليات والجامعات.
Unknown page